الهادي التليلي
صناعة الترفيه وإنتاجه على مر العصور كانت على صلة وبإيقاع مجتمعي متين لم يكن الترفيه فيه خارجاً على الضمير الجمعي، لذلك في كل زمن وأوان يحتفل الإنسان ويقاوم السأم بالفرح، وهو أمر ملتصق به كأنما هو جوهره، فلو نظرنا إلى إنسان العصر الحجري لوجدنا وسائل وأدوات وضعت لا للحاجة الحياتية كالأكل والشرب فقط وإنما أيضاً للزينة والرفاه واللهو واللعب، كما أن الرسوم على جدران الكهوف وغيرها شواهد على الحاجة الترفيهية لدى الشعوب القديمة بل ومشاهد المنازلة والرسوم العاطفية توثق لهذا الجانب الأساسي في حياة الإنسان منذ العصور الموغلة في القدم، بل ولو نظرنا أيضاً إلى اللحظة الرومانية والتي سبقت ميلاد المسيح بقرون نجد المسارح ولوحات الفسيفساء والنحت ومشاهد النزال والتسابق الرياضي حتى لكأن روما القديمة وحضارتها المهيبة على قسوة نمط عيشها هي في جوهرها عاصمة ترفيهية بامتياز ازدهر فيها الغناء والمسارح التي بقيت إلى الآن كتاب تاريخ يوثق لتلك الحضارة في مختلف ربوع العالم والأمصار التي عبرتها بل وحتى سبارتاكوس بطل وقائد ثورة العبيد كان يعطي للجانب الترفيهي في ملحمة ثورته الجانب الأكبر لذلك خلد اسمه ووثقته هوليود في فلم لم يمر بجائزة إلى وحصدها ولو عبرنا إلى اللحظة الإغريقية نجدها تنسينا كل الحضارات السابقة في مجالات الفنون والإبداع وسائر الأنشطة الترفيهية حتى الآن الجانب الرياضي ومشهديته أورثت أساطير مثل هرقل والشكل السردي الذي انبنت عليه مؤسسة الآلهة عندهم مبنية على قصص عجائبية لذلك اللحظة الإغريقية على ما تخللها من حروب كانت ولا تزال شعلة ترفيهية على مدى التاريخ يستنار بفكرها وثقافتها وفلسفتها السابقون والحاضرون ولعل جزيرة رودس تبقى إلى حد الآن من عواصم الفرح والبهجة والسعادة ويحتاج الواحد إلى الكثير الكثير من المجال ليستعرض جواهر هذه الحضارة المؤثرة في فكر وتاريخ البشرية.
ولا يمكن أن نمر في مسحنا التاريخي العاجل دون أن نعبر اللحظة الإسلامية التي كانت سبباً في تطور عديد الفنون وهضمت كثيراً من الثقافات.
ولو نظرنا إلى هذه اللحظة وما أنتجته من تحف معمارية وما رافقها من كنوز فنية أدت إلى نهضة ثقافية وفنية في مجالات العمارة والجداريات والخط كما استطاعت هذه النهضة الفنية والتي تمتد من سنة 622 ميلادي إلى اليوم قصة نجاح الحوار بين المجتمع والفنون وفعاليات الترفيه والترويح عن النفس ونحت مواقف من العالم والوجود على الجدران حتى أن بالنسبة للمؤرخ وعالم الآثار الفرنسي أوليغ غرابار المختص في الفنون الإسلامية «سلسلة من المواقف إزاء نفس عملية الإبداع الفني». هذا الحوار ترجمته نجاحات الأطباء في العلاج بالموسيقى والمعبر عنها في ما بعد بـ»الميسزيكو ثيرابي» MUSICOTHERAPIE ونجاحات كل من الأطباء القلاسفة أبي نصر الفارابي مخترع آلة القانون والرازي وابن سينا وغيرهما تدرس إلى الآن في جامعات أوروبا وأمريكا وغيرهما كمراجع اساسية في نشأة هذا العلم فالمسلمون هم من ابتدعوا الموسيقى العلاجية وهي فنون ترفه عن النفس وتؤثر فيها أيما تأثير حيث يقول ابن سينا «ان أهم أنواع المعالجة المؤثرة هي تعزيز الطاقة المؤثرة.. تعزيز الطاقة العالية والروحية للمريض ليقوى على مقاومة المرض بواسطة بيئة مليئة بالبهجة وبطريق عزف أنواع الموسيقى وإحاطته لمن يحب من الناس «وفي نفس السياق يقول ابو بكر الرازي «إن للموسيقى أثر سحري يقي المرضى من تأجج أزماتهم النفسية».
وحتى إخوان الصفا الذين يرى البعض بأن رسائلهم التي طبعت المشهد الفكري للقرن الرابع بتزمت بالفكر لا يشبه الإسلام يقولون «أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج، ولكل طبيعة نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها، كل ذلك بحسب تغييرات أمزجة الأخلاق واختلاف طباع وتركيب الأبدان في الأماكن والأزمان.. ولذلك فإنهم استخرجوا لحناً يستعملونه في المارستانات وقت الأسحار يخفف من ألم الأسقام عن الأمراض ويكسر سورتها، ويشفي كثيراً من الأمراض والأعلال».
ولو نظرنا إلى ترتيل القرآن بخشوع مهيب وبشكل جمالي مؤثر لوجدنا في ذلك زيادة على البعد الديني عملية ترفيهية عميقة المعاني فتلذذ المقرئ وتلاوته بشكل جاذب وتأثيريته عملية ترفيهية أصيلة.
فالإنسان في علاقته بالدين وظف الموسيقى والإيقاعات وفي علاقته بالطبيعة أنتج آلات موسيقية وتفاعل جماليا وفي علاقته بالإنسان تماهى في حركات جماعية وبناءات عملاقة خلت إبداعاته على مر الزمن وتبقى الأهرامات المصرية من أعاجيب العالم في هذا المجال.
فالترفيه صلته بالمجتمع أساسية فلا مجتمع بلا ترفيه الذي يرافق البشر منذ ولادتهم وصرختهم الأولى في هذا الوجود إلى رحيلهم عنها، حيث رافق الترفيه الأسمرار حول موقد ونار إنسان العصر الحجري كما كانت الاحتفالات بالصابة عند أهالي المجتمع الزراعي وعند المصريين القدامى كان الفرح بالنيل وهبته عرسا لا تنتهي أفراحه وحتى في أحزانهم البشر يرفقون ألمهم بأهازيج حزينة ولكنها في عرف علم النفس تخريج TERIORISATION وعلاج ذاتي.
حتى في الحروب كانت الموسيقى الحربية ملهبة للمشاعر ومسلية للجنود وفي الأحزاب الكليانية كالنازية والفاشية كانت الموسيقى والإيقاعات المؤثرة أساسا في التأثير وفي الثقافة الاشتراكية الموسيقى جزء مهم من الخطاب وأثره جد أساسي في الثورة لأن الترفيه هو الإنسان والإنسان بلا ترفيه لا يكون هو نفسه بل كائن آخر فالترفيه في كل العصور وفي كل المرجعيات هو الإنسان والمادة الترفيهية متوارثة كانت أو مبتدعة هي منتجة مهمة وصانعة لحوار مجتمعي هذا الحوار بدوره ينتج ترفيهاً يعكس تلك المرحة بواقعها وطموحاتها وهواجسها لهذا وغيره الحديث عن الترفيه من زاوية الأحقية في الوجود من عدمها مسألة خارجة عن الموضوع لأن الترفيه وحتى التجادل حوله هو عملية ترفيهية.