مشعل الحارثي
ما أن تتالت رنات الرسائل بهاتفي الجوال وأسرعت لأطالع ما تحمله من أخبار أو معلومات حتى انقبضت نفسي واعتلاها حزن شديد وأنا اقرأ بين طياتها خبر رحيل الشيخ الجليل فايز بن أحمد بن خطفة الشعابي الحارثي رحمه الله رحمة الأبرار، وما ذلك جزعاً وخوفاً من الموت لأنه سبيل كل حي إلى الدار الباقية، وإنما لأن رحيل الكبار والرموز وأصحاب الرأي والحكمة والمشورة وذوي الفضل والتقى يعد في حياتنا ثلمة كبيرة ويحدث فراغاً موحشاً وغصة في النفس عندما نتذكرهم ونتذكر ما مضى معهم من مواقف وأحداث تنضح بالرجولة والشجاعة والمعاني الإنسانية النبيلة، بل الأكثر إيلاماً على النفس عندما ينتظم ركب الراحلين واحداً تلو الآخر من ذوي القربى والأصدقاء والزملاء حتى صدق في ذلك قول الشاعر والفيلسوف جبران خليل جبران عندما قال:
ما زلت أومن أن الإنسان لا يموت دفعة واحدة وإنما يموت بطريقة الأجزاء كلما رحل صديق مات جزء وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما مات حلم من أحلامنا مات جزء فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميته فيحملها معه ويرحل.
وفقيدنا الراحل الشيخ (فايز) رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحي اليمانية بالطائف الأسبق لا يأتي ذكره إلا مقترناً دائماً بتوأم روحه ورفيق دربه ومسيرة شقيقه الأكبر الشيخ (زايد) شافاه الله وعافاه وأمد في عمره، وكلاهما اسمان لامعان وعلمان بارزان على مستوى قبائل بني الحارث والقبائل المجاورة ومدينتي الطائف ومكة المكرمة، وقد ارتبطا بذاكرتي وبذاكرة كل من عرفهما ومنذ الصغر كرمز مشرق للأخوة الصادقة والمحبة والتعاضد والإيثار والكلمة الواحدة والالتقاء على الإحسان وحب الإصلاح ومساعدة الآخرين والجهر بكلمة الحق، إلى جانب أنهما من أصحاب الجاه والسمعة الطيبة لدى كبار المسؤولين بالدولة.
أخيين كنا فرق الدهر بيننا
إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهر!
لقد عرفت الشقيقين الفاضلين وعرفت أولادهما ممن هم في سني آنذاك منذ سكنا بجوارهما بحي الشهداء القديمة بالطائف ذلك الحي الذي كان يسكنه أيضاً عدد كبير من الأقارب والأصدقاء وتوثقت الصلة بهما بالمصاهرة إلى جانب ما كان لهما من مواقف ومآثر حسان ودور مشرف في تبصير الناس ونصحهم وإرشادهم وإدخال السرور والألفة بينهم في مجالسهم ومشاركتهم لهم في كل أحوالهم، وهكذا هم الفضلاء من الناس ممن يبقى ذكرهم بعد رحيلهم خالداً في صدور الأجيال جيلاً بعد جيل.
ستبقى لكم في مضمر القلب والحشا
سريرة ود يوم تبلى السرائر
ولن أنسى أيضاً والدهما الشيخ أحمد بن خطفه رحمه الله الذي كان يكن لوالدي رحمه الله إلى جانب أبنائه (زايد وفايز) مودة ومحبة وتقديراً خاصاً، وكان يأتي لزيارته من مرة إلى مرتين في الأسبوع الواحد مصطحباً معه عدداً من أحفاده الصغار أبناء الشيخين الكريمين وكنت أجد في وجود هؤلاء الأنداد الصغار فرصة كبيرة للتسامر واللعب معهم وتعليمهم الرسم الذي كنت بارعاً فيه، فيما تتسع دائرة تلك المسامرة للكبار بالتحاق الشيخ زايد والشيخ فايز ولتشمل أيضاً العم هلال بن زيد الحارثي رحمه الله نسيب الشيخ زايد، وصديق الوالد فهد بن عابد الشعابي الحارثي رحمه الله، وحامد بن عبدالله بن خطفه رحمه الله.
إذا ما مضى الجيل الذي أنت منهم
وعمرت في جيل فأنت غريب
وما زلت أتذكر وأنا طفل لم أتجاوز السابعة من عمري عندما استقبل الأخوين (الشيخ زايد والشيخ فايز) في دارهما بالطائف أول وزير للعدل بالمملكة معالي الشيخ محمد الحركان رحمه الله والأمين العام الأسبق لرابطة العالم الإسلامي، وكنت برفقة والدي حينها وما تم في ذلك الاحتفاء من أحاديث ومناقشات عديدة لم أكن أفهمها بحكم صغر سني ثم ما أعقب تلك الأحاديث من وجبة دسمة وسفرة عامرة بكل ما لذ وطاب لم أشهد لها مثيلاً في ذلك الوقت إلا الوجبة المقدمة في حفل افتتاح الملك فيصل رحمه الله لطريق (كرا) بالطائف عام 1385هـ، ووقتها لم التحق بالمدرسة بعد واصطحبني والدي معه لمشاهدة هذا الحدث الكبير.
وإذا الكريم مضى وولى عمره
كفل الثناء له بعمر ثان
وإذا كان لكل من اسمه نصيب فقد فاز الفقيد العم فايز رحمه الله بقلوب محبيه وعارفي فضله، وعندما أسطر هذه السطور والذكريات القليلة في حقه التي تحتاج إلى صفحات وصفحات فإنما أسطرها وفاء لشخصه وما عرفته فيه من كريم الشمائل والصفات ولمحبته وشقيقه ووالدهم قبلهم وصداقتهم الخالصة لوالدي وما كان بينهم من فضل ومواقف وذكريات لا يتسع المجال لسردها، وهي أيضاً رسالة محبة وتقدير لأبنائه وأبناء أخيه الكبار الذين قضيت معهم أجمل أيام طفولتي سواء بمدرسة الحارث بن كلدة بالطائف أو بالحي الذي نسكنه أو على صعيد الزيارات التي لم تنقطع إلا بعد رحيلنا من ذلك الحي إلى حي الشهداء الجديد وانصراف هؤلاء الأقران للدراسة ومواصلة مشوار الحياة.
نبادله الصداقة ماحيينا
وإن متنا نورثها البنينا
ولا يسعني في الختام إلا أن أدعو الله بأن يتغمد الفقيد بفيض رحمته وأن يكتبه في عداد عباده الصالحين الأبرار وأن يغفر له ويكرم نزله ويرفع درجته في المهديين وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يثبت أقدامه في يوم تزل فيه الأقدام وأن يرحم المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات رحمة عامة وأن يرحمنا جميعاً إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
وخالص العزاء والمواساة أقدمها لوالد الجميع وتؤام الفقيد الشيخ زايد بن أحمد الحارثي رئيس المحكمة الكبرى بمكة المكرمة الأسبق، وأبناء الفقيد كل من أخي الأستاذ عبدالله، والمربي الأستاذ عبدالعزيز، والعميد حسين بالدفاع المدني بمكة المكرمة، واللواء عابد مدير جوازات منطقة مكة المكرمة الأسبق، والعميد فيصل بالحرس الوطني، والعقيد عبدالمحسن بالحرس الوطني، وخالد كاتب العدل بمكة المكرمة، والمهندس أحمد مساعد أمين أمانة الطائف، ومحمد رجل الأعمال، وذوي عبدالله بن خطفة يتقدمهم الشيخ زيد بن عبدالله واخوانه، وذوي محمود بن خطفة يتقدمهم العقيد إبراهيم واخوانه، وكافة أولادهم وأحفادهم وأنسابهم، ولقبيلة الشاعيب كافة و»إنا لله وإنا إليه راجعون».