د.عبدالله بن موسى الطاير
مكالمة أخرى بين الرئيسين الأمريكي والروسي عشية رأس السنة، وتهديدات أمريكية، تصل لمستوى الاستفزاز، بالعقوبات إن اجتاحت روسيا الحدود الأوكرانية. يذكرني الخطاب الغربي في الشأن الروسي - الأوكراني بالاتهامات التي وُجهت للسفيرة الأمريكية في العراق عام 1990م أبريل غالاسبي بمنح الضوء الأخضر لصدام حسين بغزو الكويت. فالغرب يؤز روسيا أزا لاحتلال أوكرانيا، مقابل عقوبات اقتصادية غير مسبوقة.
الرسائل الغربية المتناقضة تزعج أوكرانيا، فهي تعد أن اجتياح روسيا لها يشكل خطرا على الاتحاد الأوروبي، وعلى مصالح وتحالفات أمريكا، كما أنها تطالب بعضوية حلف شمال الأطلسي، وتتوقع ردا عسكريا من أوروبا والغرب، وليس مجرد عقوبات اقتصادية. وفي الوقت الذي لا تعد فيه أوروبا وأمريكا بأكثر من العقوبات، فإن ترعب أوكرانيا بتضخم الخطر الروسي، وتعكس اتصالات البيت الأبيض بالروس الخطر الوشيك، وكأنها اتصالات اللحظة الأخيرة لمنع الاجتياح، وفي مقابل هذا الخطر الوجودي تتوعد بعقوبات ليس أكثر، أي تمخض الجمل فولد فأرة. ولأن الأوكرانيين لا يستندون إلى ركن شديد فإنهم يتحلون بقدر من الموضوعية، وعدم الانجراف نحو التصعيد.
في هذا السياق صرح سكرتير مجلس الأمن القومي الأوكراني أن كييف قلقة بشأن القوات الروسية، ولكنها غير مرعوبة، مؤكدا أن حشود القوات الروسية موجودة في الإعلام الأجنبي أكثر منها على حدود بلاده.
وعلى خطى أوكرانيا تمارس روسيا الهدوء، ويدرك الرئيس بوتين الفخ الذي ينصبه له الأمريكيون، ولن يفكر مجرد التفكير في غزو أوكرانيا، لأنه يعلم علم اليقين أن أي تهور عسكري سيعطي أمريكا والغرب مبررات للرد العسكري وتدمير ما بنته روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي من أجل إخراجها من حلبة الصراع إلى جانب الصين وليس من أجل نصرة أوكرانيا.
وحتى حين، يبق الدولار السلاح الأكثر مضاء في ترسانة أمريكا، وهو عينه الذي تعاقب به الصين وإيران وكوبا وفنزويلا وكوريا الشمالية وكل بلد خارج عن القواعد الأمريكية. المكانة الخاصة للدولار تمنح أمريكا قوة فرض عقوبات لا مثيل لها، لأن الدولار ضرورة للشركات والمؤسسات المالية متعددة الجنسيات. لا أحد يستطيع تجاهل قوة الدولار، ولا حتى التقليل من قدرة أمريكا على حمايته والمحافظة على قوته. وبحسب المختصين فإن الدولار يمثل 62 في المائة من احتياطيات النقد الأجنبي، و88 في المائة من عمليات تداول العملات الأجنبية، و40 في المائة من المدفوعات الدولية، كما تبلغ فواتير التجارة العالمية بالدولار حوالي 50 في المائة. هذا النفوذ العظيم للعملة الأمريكية يجعلها سلاحا مدمرا لاقتصادات الدول، وعمليات الشركات، ومدخرات الأفراد فيما لو استخدم ضد أي منها. ومع ذلك فإنه لا يقنع أوكرانيا ولا يشجعها على التحرش بروسيا.
قوة الدولار الأمريكي تشكلت بعد مؤتمر بريتون وودز عام 1944، لكنها تأكدت بتحول أمريكا إلى مخزن لاحتياطات العالم النقدية، وبكون الدولار هو العملة الرئيسة لبيع النفط، وهو ما يثير التساؤلات عن عوامل القوة المكتسبة وما إذا كان الإسراف في تسليح الدولار يمكن أن يجرده من عوامل قوته. فلو قررت دول «أوبك +»، تحت ضغوط من روسيا وإيران وفنزويلا مثلا، بيع النفط بسلة عملات غير الدولار فإن ذلك سيكون مدمرا لقوة الدولار، وسيكون بمثابة إعلان حرب على أمريكا مما يعني استبعاد خطوة كهذه في الوقت الراهن. لكن ماذا لو قررت الصين جرح مشاعر الدولار بسحب استثمارها في الدين الأمريكي المقدر بأكثر من تريليون دولار، فإنها بدون شك ستوجع هذه العملة العالمية، وهي بذلك ستخيف الدائن الأول الذي يسبقها في قائمة الدائنين لأمريكا وهو اليابان، ومن ثم بقية الدول التي تمتلك نسبة كبيرة من الدين الأمريكي العام المقدر بنحو 22 تريليونا.
لا شك أن الصين وروسيا تفكر جديا، ومعها العديد من الشركات العالمية العلاقة في البحث عن بدائل، ولكنها تدرك أن الطريق طويل، وأن قوة الدولار الأمريكي ليست اقتصادية فحسب وإنما سياسية أيضا وتدعمه مؤسسات مالية عالمية كبيرة مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، ومع ذلك فإن مواصلة الولايات المتحدة لاستخدام الدولار سلاحا لمعاقبة الآبقين على قواعدها في تنظيم شؤون العالم سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى وجود بدائل.
أوكرانيا لا تهتم بأي قوة لمعاقبة روسيا، فهي تريد وعدا أمريكا بحمايتها عسكريا، وروسيا على الرغم من محاولاتها العديدة لتحييد قوة الدولار لا تزال تعترف بأنه سلاح فتاك ويؤذي اقتصادها بقوة. والخلاصة أن الدولار هو عتاد المرحلة المسلح، سواء في وجه روسيا أو غيرها ولا يبدو أن أمريكا قلقة عليه من العطب، ولا يظهر أن المتضررين منه لديهم حتى الآن دروع واقية من شظاياه.