محمد سليمان العنقري
ستبقى تداعيات جائحة كورونا محفورة في أذهان العالم ومنعطفاً تاريخياً في توجهاته المستقبليةً فالأزمة الاقتصادية التي سببتها غير مسبوقة بحجمها وطبيعتها وآثارها على البشرية ورغم أن فصولها لم تنته لكن تم التغلب على الكثير من هذه التداعيات محلياً ودولياً وبكل تأكيد لم تكن رحلة مواجهة هذه التداعيات نزهة لأي دولة بالعالم لأنها أزمة مركبة بدأت صحية وانتقلت آثارها للاقتصاد العالمي الذي دخل بركود واسع النطاق وتم ضخ قرابة 30 تريليون دولار عالمياً جلها من دول مجموعة العشرين في اقتصاداتها لاحتواء آثار هذه الكارثة الاقتصادية الضخمة بحجمها وأبعادها واليوم رغم استمرار الوباء وتحوراته التي لم تتوقف لكن تم صناعة الأسلحة لمواجهته المتمثلة باللقاحات والعلاجات وكذلك وعي المجتمعات والتقيد المتباين والنسبي من مجتمع لآخر بالاحترازات بالإضافة لفهم الفيروس من قبل العلماء والمختصين بعلم الأوبئة والقطاع الصحي عموماً والمملكة هي واحدة من أبرز الدول التي واجهت هذا الوباء باقتدار واحتوته صحياً وما زالت ولم تتعرض لضغط في القطاع الصحي وفي الشأن الاقتصادي قدمت مبادرات فاقت تكلفتها 220 مليار ريال بخلاف ما خصص لميزانية الصحة من أموال إضافية بلغت العام الماضي 46 مليار ريال مع إطلاق العديد من البرامج الاقتصادية واتخاذ تدابير وإجراءات للحفاظ على متانة الاقتصاد الكلي والجزئي.
وفي العام المنتهي 2021 عاد الاقتصاد الوطني لتحقيق معدلات نمو جيدة قاربت 3 بالمائة وهو معدل جيد في ظل ظروف الجائحة وتداعياتها على قطاعات اقتصادية عديدة بتأثير سلبي كبير إضافة للعامل الأهم وهو هبوط أسعار النفط العام الماضي لمستويات متدنية جداً مما تتطلب جهداً كبيراً قادته المملكة من خلال أوبك + لاستعادة التوازن للسوق النفطية من خلال أكبر عملية تخفيض لإنتاج النفط بالتاريخ قامت به الدول المنتجة من داخل وخارج أوبك حيث عادت السوق لتصحح أسعارها وأقفل سعر البرميل العام الماضي لخام برنت عند 51 دولاراً بعد أن هبط دون 20 دولاراً قبلها بعدة شهور من مستويات 65 دولاراً. أما العام الحالي فحقق النفط أعلى مكاسب منذ أكثر من عشرة أعوام بما يقارب 50 بالمائة وأقفل خام برنت عند 77.78 دولار للبرميل بفضل السياسات المتبعة بالسوق من قبل تحالف أوبك + وهو ما ساهم برفع إيرادات النفط للخزينة العامة لتصل إلى 558 مليار ريال العام الماضي إضافة لأثر الإصلاحات الاقتصادية لأجل تحقيق الاستدامة المالية التي ساهمت برفع الإيرادات غير النفطية إلى مستوى قياسي بلغت 372 مليار ريال مثلت 40 بالمائة من الإيرادات أما الدين العام فلم يتخط مستوياته التي تعد من الأقل بين دول مجموعة العشرين عند 29 بالمائة تقريباً من إجمالي الناتج المحلي ولا يتوقع أن يرتفع عن هذه النسبة علماً بأن المعدلات المقبولة عالمياً يصل سقفها الأعلى إلى 60 بالمائة من الناتج المحلي أي إنه عند النظر للوضع المالي للدولة يعد قوياً جداً من حيث هيكل الإيرادات والاحتياطيات الكبيرة أيضاً ومستوى دين عام منخفض.
وبالإضافة لاستيعاب كثير من قطاعات الاقتصاد لتداعيات الأزمة إجمالاً بمساندة ودعم من برامج تحفيز حكومية فإن اقتصاد المملكة بدخل العام الجديد أكثر قوة وقدرة على مواجهة التحديات التي أفرزتها الجائحة ومنها التضخم الذي ضرب كل دول العالم إضافة لاستمرار مواجهة آثار الجائحة مع المتحورات الجديدة حيث تم تحصين أكثر من 70 بالمائة من المجتمع السعودي بجرعتين على الأقل وهو عامل مهم بإمكانية السيطرة على تلك المتحورات التي تظهر بين فترة وأخرى في دول تنخفض فيها نسب الحاصلين على اللقاحات أما عوامل القوة الأساسية التي يتوقع أن يكون لها أثر كبير بتحقيق الاقتصاد الوطني لنمو يتوقع أن يصل إلى 7 بالمائة هذا العام فهي عديدة أهمها إطلاق الاستراتيجية الوطنية للاستثمار التي نوعت مصادر الاستثمار وحجمه بنسب كبيرة وقللت الاعتماد على الميزانية العامة بالضخ الاستثماري الذي قد يصل هذا العام من الميزانية إلى 92 مليار ريال لكن عند النظر لمصادر الاستثمار الأخرى سنجد أن صندوق الاستثمارات العامة سيضخ 150 مليار ريال سنوياً حتى عام 2025 بالإضافة لما سينفق من الشركات التي انضمت لبرنامج شريك التي يفترض أن يصل حجم استثماراتها السنوي إلى 500 مليار ريال حتى العام 2030 إضافة للاستثمارات من القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي أي إن عوامل دعم النمو ستكون متنوعة وفي قطاعات عديدة أطلقت برامج خاصة لها مثل النقل والخدمات اللوجستية وتنمية رأس المال البشري والخصخصة وقطاع التعدين والصناعة عموماً والقطاع المالي والإسكان الذي سيكون من القطاعات المتوقع لها نمو كبير مع إطلاق مشاريع ضخمة مثل سدرة بالرياض المملوك لشركة روشن العقارية التي أسسها صندوق الاستثمارات العامة وكذلك الشركة الوطنية للإسكان وهي شركة حكومية ضخت قرابة 75 ألف وحدة في عام 2021 ولديها مشاريع عديدة قائمة ومستقبلية مما يمثل قيادة لقطاع التطوير السكني نحو تحوله لصناعة متكاملة تمثل رافداً لدعم النمو الاقتصادي نظراً لتأثير هذا القطاع في أكثر من 100 نشاط اقتصادي.
الاقتصاد السعودي تجاوز الأسوأ في أزمة كورونا التي ضربت الاقتصاد العالمي ويستعد لمرحلة جديدة تتواكب مع المرحلة الثانية من رؤية 2030 التي يتوقع أن تتحقق فيها نسب إنجاز كبيرة في المشاريع الكبرى في مختلف القطاعات الاقتصادية الرئيسية وستكون مليئة بالتحديات والمنافسة مع العالم في جذب الاستثمارات لقطاعات الصناعة والسياحة والترفيه والخدمات اللوجستية وغيرها وتحقيق أهداف الرؤية بأن يصبح القطاع الخاص قائد النمو بالاقتصاد ويمثل 65 بالمائة بنهاية 2030 إضافة لتوليد الوظائف ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر رفع نسبة المحتوى المحلي.