أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أستعيدُ هذه الأشجان والدمع يترقرق في عيني مع بُعد العهد؛ وهي انفعالات، وضيق صدرٍ، وحسرة لا أعلم تفسيرها مجتمعة، وإنما الذي أعيه: أنَّ الشيخ في وجداني قبل أن يكون في ذاكرتي.. إن الذاكرة تعي، ويعي العقل ذكريات علمية وثقافية وعادية.. كل هذا أعيه عن شيخي حمد الجاسر رحمه الله، ولكنني أعي بقلبي قبل ذاكرتي وعقلي ما هو أجل، وهو أنَّ حمداً في سويداء قلبي؛ فهو وعيُ وجدانٍ؛ لإحسانه وبره وأنسي به فيما سلف لي من عمر مبارك إن شاء الله.. وعلى أي حال فبعد خطاب الشيخ يأذن لي بمقابلته، ويصفح عن زلتي: زرته ليلة سفره إلى القاهرة لحضور دورة المجمع السبت الموافق 6 - 7 / 10 / 1414هـ ومعي مَنْ يؤانسني عن وحشة الخجل، وهما الدكتور يحيى محمود بن جنيد والدكتور أمين سليمان سيدو؛ فقابلني الشيخ بلطفه ومزِّيحاته حتى غالطتُ نفسي بأن شيئاً لم يكن؛ فحمدتُ ربي الذي وفَّقه للخُلُق القويم؛ فجزى الله الهمداني خيراً وإن كنت غير راضٍ عن أكاذيبه؛ فقد كان السبب في رضى الشيخ وتجديد اللقاء به.. إلا أن واجب العلم يحتِّم بيان أكاذيبه حتى لا تُتَّخذ مصدراً مُوثَّقاً، وحقه عليَّ أن أدعو له.. وقد يتساءل متسائل فيقول: كيف نردُّ الهمداني وعمدتنا في الأنساب ابن الكلبي وأبوه وهما من هما في الكذب؟!.
قال أبوعبدالرحمن: إنَّ حياتي حفيلة بالذكريات والأشجان مع هذا العلاَّمة الجليل رحمه الله تعالى، ولكن أشجاني هذه عواطف بُنُوَّةٍ جيَّاشة في حالات كثيرة من الألق النفسي؛ فمرة كنت أتابع الصحافة فأجد الخبر عن تكريم الجنادرية لشيخنا حمد الجاسر فلا أقدر على الحضور؛ لأشارك مُعلِّقاً؛ إذ لم تتح لي المشاركة مُنشئاً لا مُنشداً.. أسفت على حضور هذه المناسبة ولي الحق في ذلك؛ لأنني فيما يظهر والعلم عند الله آكَدُ وأثبَتُ مَنْ استفاد من علم الشيخ وورثه، ولأنني علقت به حُباً منذ اليفاع وهو في حيويته الشبابية واعتداده العلمي، وأنا في دور الطلب الجاد.. وهذا العلوق أثبتُ دواعي الحب، ولأنني التصقت بالشيخ قبيل الكهولة وأنا أتمتع بكل أزياء أبي براقش من أديب إلى عاشقِ فنِّ إلى مُوَلَّهٍ إلى مُتَفَقِّهٍ أو متفلسف أو متنحوٍ إلى ذي علوقٍ بعلم شرعي شَعُرَ بالتقصير مع ربه فحاول بعض الجِدِّ؛ ليستدرك شيئاً من ضياع العمر.. التصقتُ بالشيخ في كل هذه الأجواء فما كرهت منه شيئاً من حضور علم، أو ندا كف، أو حُنُوٍّ.. وهو ذو خير وتديُّن يشدُّه إلى ربه ويقلقه آخر هذا العُمْرُ، وكأن أبا عبدالرحمن نسخة منه في هذا الملحظ، وإنما يثير المزاج بين الشيخ وتلميذه نَزَقٌ من حرارة الطبع العربي يتمتع به كل من الطرفين؛ فالشيخ حادُّ المزاج إذا كَرَّس العلم بلسانه وعقله كرَّسهُ بأصبعه في السرة أو تحت حبة الثدي.. والتلميذ عاطفي تُفَـوِّحُهُ الخوصة، ويجذبه خيط العنكبوت؛ فيكون انفعال التلميذ، ثم يسبقه ندمه.
قال أبو عبدالرحمن: عَلقتُ بالشيخ علوقاً خارج الأشجان العلمية؛ لأنه رفع الكلفة، وقرَّبني إلى قلبه؛ فأغرقني بالمتعة في سرد ذكرياته أو توالي مِزِّيحاته.. وبعض المرات أغرق في الضحك وأنا وحدي إذا تذكرت بعض تلك المِزِّيحَاتْ؛ فمن ذلك أنني أدخل عليه في بيته الأول بشارع صيته فأجدُ عنده شيخنا أبا سهيل عبدالكريم الجهيمان والأستاذ محمد السنيدي، والأستاذ عبدالرزاق الريس رحمهما الله؛ فيكون أول قِرانا حبات السمبوسة المتبَّنة بنعم الله من الخضار واللحوم والتوابل؛ فكان يُزقِّطني كما يزقِّط الديك الرومي كلما قلت: حسبي حسبي، وكان يُصَغِّر اللفظ المشبَّه به للتشويق؛ فيقول: هذه جُريِّدات.. أي كالجراد.. وكان التمر يأتينا ملفوفاً بأكياس النايلون ونأكله بالشوكة!!.. كل ذلك محافظة على النظافة.. وكنت ذات يوم مزكوماً؛ فكان يُبعِد عني ويسد أنفه خوفاً من الزكام؛ فألقيت عني نظارتي، وسحبت الشيخ برجليه حتى كان صدره عند صدري وأنفي بأنفه، وأنا أقول: لا عدوى ولا طيرة.. فكان منظراً مضحكاً جداً، وكان الشيخ يريد الاستنجاد بأبي سهيل ليبعدني عنه فما قدر إلا بالإشارة لشدة الضحك؛ فبربكم أي ذكريات مليحة كهذه مليئة بالبشاشة والطرفة والإيثار والكرم ينساها فنان ممزق كأبي عبدالرحمن؟!.. وعندما كنت في الطريق بين جدة ومكة المكرمة وكان سائق الشيخ الذي يوصله إلى الحرم وإلى جدة وإلى الجامعة ليلقي محاضرته هناك بجامعة أم القرى يخلط ويبالغ في الكلام عن ذهول الشيخ؛ فغبت عنه دقائق في صمتٍ واجم وأنا أناجي نفسي بدعاء إلى ربِّي أكرره وموجزه: اللهم متِّعه بالعافية، ولا تخترمنَّهُ إلا وأنت راضٍ عنه محب للقائه.
وهناك ما هو غير حدة المزاج يثير الصياحَ القلميَّ بين طلبة العلم مع بقاء كل جذور الود؛ والسبب في ذلك أن التلميذ مرة يريد إثبات حضوره العلمي؛ فيتعمد مخالفة شيخه ومقارعته الحجة تأكيداً للذات واعتزازاً بالانتصار على من هو فوق القرن، ومرة يكون للتلميذ حضور علمي أصيل وتوفيق للصواب في مسألة ليس موجوداً (أعني الصواب في المسألة) عند شيخه؛ فإذا لم يقابله شيخه بالقبول والاستسلام كَثُرَ الهياج القلمي وتجاوز حدوده العلمية.
وقد ذكرتُ مرة في التباريح رؤياي لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وصعودي إليه وكلي وَلَهٌ وإجهاش؛ فلما أوشكت الوصول إليه وجدت مكان الصِّدِّيق مَنْ يقول: أُدْخُلْ يا ابني.. وإذا به الشيخ حمد الجاسر وأطراف عمامته من وراء أذنه!!.. فأوَّلتُ ذلك بأن طلبي للعلم الشرعي يعرض له تخصُّصاتٌ من علم الشيخ في التاريخ المحلي والأنساب والبلدانيات؛ لأن رؤيا أبي بكر رضي الله عنه عند المعبِّرين تعني العلم.. وذكرت شيئاً مما ذكره الإمام أبو محمد ابن حزم عن رؤيا أديب أندلسي للحسن بن هانئ بعين حولاء فنال نصيباً من الشعر.. والشيخ كان عالم شريعة، ممارساً للقضاء، راسخ العقيدة السلفية.. تجد آثار ذلك في تعليقاته على الأعمال التاريخية التي يحققها أو يعرضها.. وكان ذا وعي سياسي واجتماعي مبكِّر في البلد، ولكنه تفرِّغ لعلوم من علوم الآلة صار فيها مرجعاً على سُنِّة من شاركوا الشيخ تخصُّصه وهم ذوو علم فكري أو لغوي أو شرعي كابن عبدالبر وابن حزم والبكري وياقوت والذهبي وابن حجر.. إلخ.. إلخ رحمهم الله.
قال أبو عبدالرحمن: محبتي للشيخ وعلمه تنتج وجوهاً من التربية العلمية أهمها التأسي بالشيخ في الجد والمثابرة والتحري والتواضع العلمي الذي لا يُلغي قناعة فكرية يقينية أو راجحة.. وقد أفدت من الشيخ كثيراً في هذا الجانب؛ فكان علمي من الكتب لا من أفواه المشايخ؛ فيكثر تصحيفي للأعلام الآدمية والمكانية؛ فربما نطقت الرباب بفتح الراء مرة وكسرها مرة.. [الرِّباب بكسر الراء المشددة، وهم أحياء ضبة ومعهم بنو عدي، وبنو تيم وبنو عكل]، وربما نطقت ابن تغري بردي بالياء تارة وبالألف المقصورة تارة.. إلخ.. إلخ؛ فما زال الشيخ يأخذ لساني بالتصحيح حتى صرتُ أُقدِّمُ المراجعة على النطق.. نعم كان حمد الجاسر يأخذني بالجدِّ إذا نطقتُ الأعلام الآدمية والمكانية خطأ؛ وسرُّ ذلك أن ثقافتي في هذا من الكتاب غير المشكَّل أو المضبوط بالقلم، ولم يكن جَثواً على الركب عند المشايخ؛ فمن محادثاتي للشيخ استقام لساني، وصارت عندي مَلَكة التفريق بين الاسم والوصف؛ فعلمتُ مثلاً أن النازيَّة وصفٌ يمكن أن يوجد في أكثر من موقع وليس اسماً لعلم ثابت.. وكان الشيخ يمنح النص تقويماً وتشكيلاً ومراجعة أكثر مما يمنحه تعليقاً وشرحاً؛ فإذا احتاج إلى مراجعة وهو خلال التصحيح وضع علامة استفهام بالأحمر في أحد الهامشين.. لقد أفدت من الشيخ في كل هذه الجوانب، وقَلَّ انفعالي العلمي، وصرتُ أقابل مهاترات الخصوم بنقاشِ لُبِّ الموضوع نقاشاً علمياً بتراجع مني أو تصميم على ما عندي حسب اليقين أو الرجحان الذي أملكه، وأترك من كلام الخصوم جانب المهاترات وبُنيَّاتِ الطريق تعفُّفاً.. وكل ذلك من بركات الشيخ بعد الله.. ومن وجوه التربية العلمية ألاَّ يقف التلميذ حيث وقف شيخه؛ بل يستغل جهود شيخه العلمية في اختصار الزمن، وينطلق من جوانب أخرى؛ ولهذا السبب كانت لي تطلُّعات خالفتُ بها مخالفةَ المباينةِ والتناقض قليلاً من علم شيخي حمد، وخالفت كثيراً كثيراً بعض أعمال رجال المعجم الآخرين باستثناء الشيخ العبودي فإنه كان يحك العلم حكاً.. لقد رأيت أن التاريخ بكلِّ فروعه علم نقلٍ مكرَّر ذا سهولة ومتعة، وأن ابن العصر اليوم بحاجة إلى أصول فكريةٍ بغربلةِ المسلَّمات المضلِّلة؛ فإذا كان الهمداني مثلاً حجة إماماً في معرفة المواضع لقيام شواهد الصدق والعلم في ذلك فلا يعني ذلك إمامته وصدقه فيما أغرب به مما لا يوجد عند غيره ولا يكون انبهار البعيدين عن موطنه من المغاربة وغيرهمالآتين بعده الناقلين عنه شاهداً على صحة غرائبه، ولا يكون تفريعه للقبائل، وذكره للأخبار والأشعار المتأخرة المنحولة التي لا توجد عند غيره، وكذلك ذِكْرُه الأعلامَ ذوي التاريخ الحافل الذين لا ذكر لهم عند غير الهمداني.. لا يكون كل ذلك حجة على أن الهمداني حجة في كل ذلك إذا تخلَّفت مقتضيات الصحة وَوُجدت موانعها.
قال أبو عبدالرحمن: وبإيجاز أقول: إن شيخي حمد الجاسر أحد أساتذة الجيل في بلادي، ولكن له ميزة أنه أستاذ جيل في غير بلادي في فروع علمية كان فيها أوحد.. وهكذا سماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي رحمه الله كان أستاذ جيل في فروع أخرى، وجيل الشيخ حمد أكثر، وجيل الشيخ عبدالرزاق أخصُّ؛ إذْ إنَّ أكثر رجال العلم الشرعي والتربية والتعليم تلامذته، والبقية تلامذة تلامذته.. والقاضي عياض يعتبر العلم بالكتب والمؤلفين من الكمال، والشيخ حمد ذو علم مكين في ذلك، ولم يكن علمه كمالياً ولكنه كان ضرورياً؛ فهو الذي جاب خزانات العالم، ونبش عن المصدر المباشر وغير المباشر، وهدى أبناء الجيل إلى مصادر تاريخِ وآداب بلادهم وعرَّفهم بها وبقيمتها العلمية.. وكم من طالب أطروحةٍ عالية كان الشيخ له أشبه بالمشرف المباشر توجيهاً ودعماً.. وقد قلت في رثاء شيخي حمد قصيدة دالية، أذكر منها هذه الأبيات:
ووجدي عليكَ الوجدُ غيرُ مُفَرَّقٍ
ووجدي عليك الوجدُ لا يَتَحَدَّد
وَفَقْدِيْكَ فقدُ العينِ إنسانَ نورها
وَفَقْدُ دنيفٍ قصْدَهُ وهو مُقْصَدُ
سيبكيك ناءٍ ما رآك وإنما
له من لآليكَ الفريداتِ مَعْهد
ويبكي لأن العلم رهنٌ بأهله
بِهِمْ ما حَيَواْ يحيا وبالموت يُوْأَد
ويبكيك شادٍ للعلوم وَجِهبذٌ
يُأَرِّقُهُ فقرٌ وحظ مُلَدَّد
وتبكيك أعلام الجزيرة كُلُّها
جبالٌ ووديانٌ وحزم وَفَدْفَد
وتبكيك أَحْياءُ القبائلِ مِنَّةً
بنو يَعْرَبَ الأقصى ومن يتمعدد
ألا إنَّ أجيال المعارف خِصْبَةٌ
وإبداعَ قومي حافلٌ يَتَجَدَّد
قال أبو عبدالرحمن: التمعدد نسبة إلى معد بن عدنان، وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المُستعانُ.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -