الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
تحذر تعاليم الإسلام من تفشي مظاهر الإسراف والتبذير في كل شؤون الحياة، وقد وردت دعوة الدين الحنيف إلى عدم الإسراف والتبذير في العديد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، وذلك لمخاطرها الشرعية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها مما يتوجب التنبيه والتوكيد على أن الاقتصاد والتوسط مطلب شرعي في أمور الحياة.
«الجزيرة» استطلعت رؤى عدد من المختصين في العلوم الشرعية والاجتماعية والطبية، لمعرفة الأمور المهمة لضبط الإسراف والتبذير في المجتمعات، وكانت رؤاهم على النحو التالي:
التأثير السلبي
بداية يوضح الدكتور عبدالرحمن بن سعيد الحازمي المستشار في رابطة العالم الإسلامي: إن الإسراف والتبذير خصلتان ذميمتان، فالإسراف تجاوز الحد فيما ينبغي، أما التبذير فهو صرف الشيء فيما لا ينبغي، والملاحظ أن بعض المجتمعات الإسلامية قد بالغت في الإسراف في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمركب، وقد قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} الأعراف: 31، وقد يشمل الإسراف حتى في المشاعر المعنوية كالحب والكراهية. أما التبذير فهو إنفاق المال في غير محله، كإنفاقه في اللهو والشهوات المحرمة في الداخل والخارج، وما يتبع ذلك من ارتكاب المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها، وقد وصف الله تعالى المبذرين بأقبح الصفات لشناعتها، بأنهم إخوان الشياطين، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} الإسراء: 27.
مطلب شرعي
ويشدد الدكتور الحازمي على أن الاقتصاد والتوسط مطلب شرعي في أمور الحياة كلها، وقد أثنى الله تعالى على عباده الصالحين الذين لم يسرفوا ولم يبخلوا، فقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67].
وبدون شك إن التبذير والإسراف لهما تأثير سلبي على شؤون الحياة كلها؛ لأنهما سيتمان وضع الأمور في غير موضعهما، ويتم تضييع الأموال والأوقات والجهود هباء منثوراً، على حين أنه لو تم الإنفاق بتوسط واعتدال في الأسرة، والأعمال العامة، والحفلات، والمشروعات المختلفة، لاستطعنا توفير مبالغ وجهود وأوقات يمكن من خلالها إنجاز أعمال ذات أهمية في مجالات أخرى تخدم المجتمع وترقى بالأمة، ومن المعلومات المعروفة عن بعض الدول المتقدمة؛ كالصين واليابان أنها شعوب تميل إلى الاقتصاد في كل شؤون حياتهم، ويضعون الأموال والأوقات في محلها بدقة متناهية، ولعل هذا سر من أسرار تقدمهم ورقيهم.
ومن الأمور المهمة لضبط الإسراف والتبذير: تقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلن، والتخطيط الجيد وعدم الارتجال والعشوائية في الأعمال كافة، والمتابعة الدقيقة والمحاسبة الشديدة، وإعداد قادة على مستوى عال من الفهم وحسن التعامل والرؤية الجيدة للواقع وللحياة ليتولوا القيادة والتوجيه والإصلاح، وإسهام المؤسسات التربوية في غرس القيم الإسلامية السامية في نفوس الناشئة والشباب وعامة الناس، ومنها قيمتا التوسط والاعتدال.
الإفراط الدوائي
ومن الناحية الطبية يكشف الدكتور شاكر بن عبدالعزيز العُمري استشاري طب الأسرة، مدير عام البرامج الصحية والأمراض المزمنة بوزارة الصحة، بعض المخاطر الصحية عن الإسراف والتبذير، حيث يقول: إن الحياة العصرية التي نعيشها والتغير في نمط الحياة زادا من نسبة الأمراض وخصوصاً الأمراض المزمنة، ومع تزايد أمراض العصر والتطور الطبي وسهولة الوصول إلى الأدوية والعقاقير الطبية أصبح الإفراط في تناولها شائعاً ومشكلة صحية حول العالم حيث تقع المسؤولية على المريض والطبيب والصيدلي والنظام الصحي.
ويعرف الإفراط الدوائي بأنه استخدام عدة أدوية أكثر مما يحتاجه المريض فعلياً ما يمثل استخداماً عشوائياً للدواء وقد ينعكس على المريض بمشاكل صحية مختلفة نتيجة للآثار الجانبية للدواء بذاته أو لتفاعلات جانبية مع غيره من الأدوية لأن الأدوية التي هي آمنة بحد ذاتها قد تكون غير آمنة إذا أخذت معاً، فعندما يتم أخذ مجموعة من الأدوية يمكن أن تسبب آثاراً جانبية نتيجة تفاعلاتها مع بعضها البعض، كما يمكن أن يتسبب التهاون بالإفراط في استخدام الأدوية في الإصابة بفشل الكبد، أو الفشل الكلوي وغيرها من الآثار الجانبية خصوصاً عند تناولها بجرعات عالية أو لفترة طويلة.
أسباب الإفراط
ويبين الدكتور شاكر العُمري أن هناك عدة أسباب للإفراط الدوائي منها أسباب تتعلق بالمريض كقلة الوعي واستخدام الأدوية بدون استشارة الطبيب أو تعدد الأمراض أو تعدد الأطباء الذين يتم مراجعتهم أو أخذ الأدوية بناء على توصيات شخصية، وهناك أسباب تتعلق بالممارس الصحي كعدم مراجعة أدوية المريض بصفة دورية ومنتظمة أو السعي لمعالجة الآثار الجانبية لبعض الأدوية بأدوية أخرى بدلاً من إيقاف الدواء المسبب واستبداله أو التردد في إيقاف الأدوية غير الضرورية أو غير المفيدة للمريض، كما أن هناك أسباباً تتعلق بالنظام الصحي كعدم وجود طبيب خاص للمريض كطبيب الأسرة والسماح للمريض بتعدد الأطباء والملفات الطبية في عدة مستشفيات في الوقت نفسه في ظل عدم وجود نظام ربط أو ملف طبي موحد للمريض أو صرف الأدوية بدون وصفة طبية أو عدم تفعيل دور الصيدلي في تثقيف المريض أثناء صرف وإعطاء الدواء.
ومن أهم الأمثلة في الإفراط الدوائي كثرة استخدام المضادات الحيوية لمعالجة الالتهابات الفيروسية مثل: نزلات البرد وغيرها لاعتقاد البعض بفاعليتها حيث تكمن خطورة الاستعمال غير الصحيح لمثل هذه الأدوية في مقاومة الجسم لتلك المضادات، وبالتالي عدم الاستجابة لأي مضاد حيوي في المستقبل مما يضاعف العبء على المريض إذا ما تعرض لأي مرض التهاب بكتيري، مؤكداً على أنه من الأهمية بمكان عند تناول أي دواء أن يعرف المريض من خلال استشارة الطبيب والصيدلي الخطة العلاجية وكيف يعمل هذا الدواء، وما هي الآثار الجانبية، وهل يتعارض الدواء مع الطعام أو أية أدوية أخرى، وما هي الجرعة المناسبة والمدة الزمنية لأخذ الدواء وما هو الحل إذا نسيت تناول الدواء في الوقت المحدد، كما ينصح عند كل زيارة للطبيب المعالج أن يُحضر المريض أو المرافق معه جميع الأدوية المستخدمة أو على الأقل إحضار قائمة تشمل: اسم الدواء الطبي والتجاري والجرعة المستخدمة، وجميع الأدوية التي صرفت بوصفة طبية أو بدونها بما في ذلك الفيتامينات والأدوية العامة مثل المسكنات وأي منتج عشبي أو طبيعي يتم استخدامه.
استهلاك مدمر
وتؤكد الدكتورة نورة بنت إبراهيم الصويان أستاذ علم الاجتماع أن مما ساعد على انتشار تلك السلوكيات والعادات، وبروز العقلية الاستهلاكية المدمرة وانتشار الثقافة الاستهلاكية الخاطئة عوامل عديدة منها: إغراق السوق بصنوف الكماليات والإعلان عنها بطريقة مثيرة، وكذا انخفاض الوعي الاستهلاكي لدى أفراد المجتمع، وعدم توجيه أفراد المجتمع بشكل مباشر، ومن المعلوم، أن أوجه الصرف الباذخ ينبغي على الأفراد والأسر والمجتمعات إعادة النظر فيها والتخلص من الأنماط البذخية والاستهلاكية المفرطة ومظاهر المباهاة والتعالي المتمثلة في مناسبات الأعراس والولائم، مشيرة إلى أن الثقافة تعتبر من العوامل التي تؤثر على الاستهلاك الترفي، وضرورة أن يتم تكثيف الدراسات حول هذا الموضوع ومدى تأثير القيم وتطورها على النموذج الثقافي، وبالتالي كيفية تأثيرها على التغير الاجتماعي وعلى الثقافة الاستهلاكية، وإن النموذج الاستهلاكي قد أثر على الأسرة بالإضافة إلى أن القيم الاجتماعية هي التي تؤثر تأثيراً مباشراً على الفرد وسلوكه.
عوامل مؤثرة
وتكشف الدكتورة نورة الصويان العوامل التي تؤثر في الاستهلاك الترفي، ومنها: انتماء الفرد الاجتماعي فهذا الانتماء له دور في زيادة أو قلة الاستهلاك، كما أن التعليم هو من العوامل المهمة للحد من الاستهلاك الترفي بالإضافة إلى وجود برامج ترشيد الاستهلاك، إضافة إلى العوامل الثقافية التي تعمل على تطوير المستوى الثقافي والتمييز بين طبيعة واختلاف العادات والتقاليد، مع وجود المعتقدات الدينية وفهمها بشكل صحيح حيث إنها تساهم بشكل أساسي في ضبط الاستهلاك الترفي لأنه يكون ضمن ضوابط دينية معينة، كما أن الإنترنت والإعلام الإلكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي والترويج للسلع تعد من العوامل الرئيسية التي تؤثر على الاستهلاك الترفي.
وبينت أن الاقتصاديين والاجتماعيين يؤكدون على بعض الأمور لمعالجة الاستهلاك الترفي، ومن ذلك:
1 - التخلص من القيم الاستهلاكية السيئة السلبية، حتى لا يسبّب الاستهلاك الترفي الفقر وسط الرخاء.
2.- كبح الانفعال العاطفي ومراقبة الاستهلاك والتحكم في كميته ونوعه وسعره.
3 - تشجيع الأفراد على الادخار وتيسير فتح قنوات فعالة لاستثمار مدخراتهم.
4 - تقدير الكميات المطلوبة للاستهلاك وتحديد الجودة والنوعية.
5- التوعية بشراء الاحتياجات الأساسية فقط للاستهلاك والتبذير.
6 - تضمين المناهج الدراسية المخاطر والسلبيات.
7 - التنشئة الاجتماعية الصحيحة من خلال غرس قيم التواضع وعدم التبذير منذ الصغر.
8 - تشجيع المبادرات الأهلية للتوعية المجتمعية لترشيد الاستهلاك والإرشاد بضرورة حفظ النعمة وأهمية الادخار.
واختتمت حديثها بأنه ينبغي أن نسجل بافتخار تلك المحاولات الجادة والمبادرات الأهلية التي ظهرت في مجتمعنا السعودي للتخلص من الاستهلاك المترف والدعوة لمناقشة الأنماط الرشيدة في الصرف والتسوق حسب الأصول العلمية تحقيقاً لمستقبل أسري ومجتمعي متين.