عطية محمد عطية عقيلان
عاني الكثير من المفكرين والأدباء والفلاسفة ورجال العلم وغيرهم، من الحكم عليهم حسب الحركات الموجودة في عصرهم، وفقد الكثير منهم حياته أو نفي أو سجن، نتيجة تهم غالبا مفبركة تطلق عليهم، سواء بالهرطقة أو الردة أو المروق عن الدين أو الانتماء ومحاربة الحزب، وكانت حياة الفلاسفة في الأندلس على سبيل المثال مليئة بالتهم والشك والارتياب من العامة، ففي القرن الخامس هجري عاش العالم والفيلسوف ابن رشد صاحب كتاب تهافت التهافت والكثير من المؤلفات المهمة في شتى المجالات، وهو فيلسوف وقاضي وصاحب ثقافة وعلم ومكانة وأثر في كثيرين من الفلاسفة والمبدعين كابن خلدون وديكارت، ولكنه رغم ذلك اتهم بأنه مارق ونفي حتى مات، كحالة الكثير من المبدعين في عصره، كما شهدت محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر الميلادي، بدعوى محارب الهرطقة وتأخذ الناس بالشبهة والوشاية وكان فيها ظلم وسلطة مطلقة أدت إلى الثورة عليها في القرن التاسع عشر فظهرت القوانين والأنظمة التي تنظم علاقة الناس وتحفظ حقوقهم، ولم يسلم القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا من التصنيفات وظهور حركات وإيدلوجيات تحاسب الناس وتراقبهم بناء على قوانين وظنون خاصة بها، مثل الشيوعية والماركسية والنازية واليمينية واليسارية والعلمانية والليبرالية، وفي منطقتنا كالقاعدة وداعش والحوثيين وبوكو حرام، وتشترك أغلب هذه التنظيمات أو الأحزاب أو الأيدلوجيات، بقوانين خاصة بها تتلون وتتغير لتحقيق مصالحها وأهدافها وبسط سيطرتها على الآخرين ولو بالقوة وغير المنطق، ورغم أنها تواجه مقاومة أو اعتراض أو محاربة من المجتمع خاصة بوجود القوانين والأنظمة التي تحفظ حرية الإنسان وكرامته وحقه في الحياة الكريمة، وشهدنا تجريم الكثير منها كالحوثيين في اليمن، لحملهم ايدلوجية إرهابية هدفها تحقيق المصالح الموكلة لهم واضطهاد أبناء بلدهم للاستمرار في استهداف المدنيين والآمنين، بدل البحث عن تحقيق ومراعاة حياة مواطنيهم واستقرار بلدهم وتوفير حياة وعيش كريم لهم والامتثال للقرارات الدولية لتحقيق الأمن والعدالة والاستقرار.
ونحن في حياتنا نمارس محاكم التفتيش في حياة الناس وتقييم آرائهم وأقوالهم وقراراتهم ومعتقداتهم، ونسمح لأنفسنا باستخدام كافة الوسائل المشروعة وغير المشروعة في «النبش» في حياتهم الخاصة، وإصدار الأحكام والافتراءات عليهم، وشهدنا كيف يتم ذلك جلياً في مختلف منصات التواصل الاجتماعي، واستحضار آرائهم وتعليقاتهم القديمة، وهي في الأغلب مجتزئة ومحورة وبها قص ولصق لخدمة ما نريد أن نشيعه أو نثبته عن ذاك البلد أو هذا الشخص، دون رادع أو منطق أو موضوعية في الاستدال والحكم عليهم، مع عدم قدرتنا وإيماننا في تقبل الآراء الأخرى وأن التغيير سمة طبيعية للإنسان حسب المتغيرات والسن والخبرة، لاسيما في أمور الحياة والعلاقات والعمل والدراسة التي تقبل التباين والاختلاف المقبول بين البشر، لذا من المهم أن نطبق في حياتنا ونوجد «محاكم تفتيش ذاتية» تقوم بشكل دوري بمراقبة والتفتيش على ما قمنا به من قرارات وأفعال وسلوكيات، وتقيمها وتعديل المعوج منها وتقوية واستثمار المفيد والصائب منها، مع حاجتنا جميعا إلى الصيانة الدورية لكل ما نقول ونفعل وتحديث الصالح لنا ولمن حولنا ولمجتمعنا، وأن نجتهد ونسعى لتطوير أنفسنا بدل أن نمارس المثالية على الآخرين، مع أن الطبيعة البشرية تحكم على الآخرين بقسوة، والمثل الطريف يقول «الجمل لا يرى عوجة رقبته»، إلا أننا مع التدريب والتمرين ممكن أن نرى «عوجنا» ونصلحه ونقومه ونحوله إلى الأفضل لنا، بعيدًا عن ممارسة النقد والتعليق السلبي والذم «والحش» ومطالبة الآخرين بأن يكونوا مثاليين، ونختم بمقولة للمفكر والروائي الروسي ليو تولستوي «قبل أن تصدر الحكم على الآخرين، أحكم على نفسك».