تعود معرفتي بدولة الكويت الشقيقة إلى عهد الطفولة، إذ كانت القناة الأولى السعودية تعرض بعض المسلسلات الكويتية في منتصف السبعينيات الميلادية، ثم في عهد الصبا عن طريق الصحف والمجلات الكويتية التي كانت تصلنا بانتظام، وكنت - آنذاك - من هواة القراءة المجانية في البقالات - عفا الله عما سلف-، وهي عادة قديمة استطعت الإقلاع عنها بعد مشقة وترويض للنفس، وكان السبب في اتخاذ هذا القرار التاريخي، هو التحاقي بالعمل موظفا حكوميا، فصار لي راتب ثابت أنفق منه بسخاء في شراء الكتب والمجلات والصحف.
وبعد أن كبرت قليلا وتوسعت مداركي، تطلعتْ نفسي إلى زيارة هذا البلد الذي أحببته وأحببت صحافته، وصرت متابعا جيدا للحركة الثقافية النشطة، وما يصدر من كتب ومجلات وصحف وسلاسل ثقافية جميلة.
وكنت في كل رحلة إلى الكويت أحرص على زيارة بعض المكتبات والمتاحف والمعالم الشهيرة، وأيضا الالتقاء ببعض الشخصيات الأدبية والرائدة في تاريخ الكويت المعاصر، ومن هؤلاء الباحث الأستاذ سيف بن مرزوق الشملان الرومي (1926- 2021م) الذي سعدت بزيارته في ديوانيته في شارع الخليج العربي قبل سنوات تزيد على العشر، ووجدته جالسا في صدر المجلس ومن حوله بعض رواد الديوانية، وكان يرافقني في تلك الزيارة الصديق الباحث الأستاذ صالح المسباح.
وقد حدثني - رحمه الله- عن قصة برنامجه «صفحات من تاريخ الكويت» الذي كان يعرضه تلفاز الكويت في أواخر الستينيات الميلادية، واستمر يعرض في كل دورة جديدة، ويتضمن معلومات مهمة مع كبار السن عن الغوص وتجارة اللؤلؤ، وعن بعض الأحداث التي شهدتها الكويت، والتي قد لا تتوافر في أي مصدر آخر.
ثم نهض من مكانه بتثاقل وهو في هذه السن المتقدمة، وأخذني إلى غرفة صغيرة تقع في الجهة المقابلة، وأراني مجموعة من الصور المعلقة على جدران تلك الغرفة لبعض أعلام الأدب ورجالات الغوص، وكنت أتمنى أنه أطلعني على متحفه ومكتبته الخاصة التي نجت بأعجوبة من السرقة أو العبث أثناء الغزو العراقي الغاشم للكويت، فقد ذكر في حواره لمجلة العربي- سبتمبر 2000م- أن الجنود العراقيين في الأيام الأولى كانوا يستندون إلى نوافذ بيته في ضاحية الدعية!
ومؤلفات الأستاذ سيف الشملان قليلة، ولا تتناسب مع مكانته بوصفه مؤرخًا وباحثًا عاش نحو قرن، ويمتلك كثيرًا من الوثائق والبرقيات والخطابات التي آلت إليه من جده -كان من كبار تجار اللؤلؤ - وعاصر أحداثًا مهمة في تاريخ الكويت المعاصر، وأعزو السبب في ذلك إلى داء (التسويف) الذي تمكّن منه منذ صغره، فما أكثر الكتب التي أعلن عن قرب صدورها ولم تصدر، ومن ذلك كتابه المخطوط عن حياة عنترة بن شداد وشعره، وكتاب آخر عنوانه «من نفائس الخبايا»، كما أن من عادته إذا شرع في التأليف أن يعمل في أكثر من كتاب في آن واحد، ثم سرعان ما يتسلل الملل إلى نفسه فينصرف عن إكمال ما بدأه!
ولكن سيظل كتابه «من تاريخ الكويت» من أهم كتبه وأكثرها شهرة في الكويت والخليج العربي، وقد طبع في مصر عام 1959م، وكان المؤلف مريضا - يومئذ- حينما سافر إلى القاهرة؛ لتلقي العلاج وللإشراف على طباعة كتابه.
وقد قدم له الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري- وأشاد بالكتاب وبمؤلفه- الذي كان يشجعه دائما ويستحثه على سرعة إنجاز طباعته، حتى لو كان هناك بعض النقص، الذي يمكن تداركه في طبعة قادمة مزيدة ومنقحة.
ونشر المؤلف رسالة قديمة كان قد تلقاها من الأستاذ الأنصاري يبدي فيها رغبته في المساهمة ماليا في تكاليف طباعة الكتاب، الذي وصفه بالنفيس في تقديمه، فهو جهد مشكور، وإن كان الكتاب قد تعرض لسهام النقد الجارحة من بعض الباحثين الذين يرون أن الأستاذ الشملان لم يقدم جديدا في كتابه، وأنه اعتمد كثيرا على كتابي «تاريخ الكويت» للشيخ عبدالعزيز الرشيد، و»صفحات من تاريخ الكويت» ليوسف القناعي، وأنه أسرف كثيرا في الاستشهاد بالمصادر الشفوية التي أخذها من أفواه بعض كبار السن، دون التثبت من صحة رواياتهم، مع أن المؤلف أشار في مقدمته الطويلة للكتاب إلى أنه ليس كتابا شاملا لتاريخ الكويت، فهو في الأصل مقالات وردود وتعليقات نشرها في مجلة «البعثة» الكويتية.
ومما يزيد من أهمية الكتاب أنه صدر قبل أن تنال الكويت استقلالها بعامين، وأن المؤلف ولد قبل اكتشاف النفط، وأدرك بعض الأحداث المهمة في مرحلة الطفولة، مثل: زيارة الملك عبدالعزيز للكويت، ومطر ( الهدامة) الشهير الذي سبب أضرارا كبيرة للمباني التي كان معظمها مشيدا بالطين، ووفاة حاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر الصباح.
أما مؤلفه الباذخ «تاريخ الغوص عن اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي» فهو كتاب رائد، وأثر خالد؛ لأن مصادره كانت شحيحة آنذاك، وقد اُضطر المؤلف للسفر إلى الأحساء وقطر والبحرين ودبي والشارقة وأم القوين، قبل قيام اتحاد الإمارات بعقدين؛ وذلك لجمع بعض المعلومات المهمة والصور النادرة، عن أحوال الغوص والغواصين، وتجارة اللؤلؤ التي كانت مزدهرة في عهود سابقة، ثم كسدت وانتهت في عهد الشيخ عبدالله السالم الصباح.
وقد تأخر صدور هذا الكتاب كثيرا، إذ لم يصدر إلا في عام 1975م، وتولى التقديم له العلامة د. أحمد زكي، وربما يكون هذا آخر تقديم كتبه هذا العالم الفذ.
والنسخة التي احتفظ بها تجليدها أحمر، وعليها إهداء بخط المؤلف إلى أحد كبار الأدباء في المملكة، وهي نسخة فاخرة وورقها صقيل، وعلى الغلاف الخلفي رسمة جميلة لإحدى السفن الشراعية القديمة.
والطبعة الأولى الفاخرة تختلف عن الطبعة الثانية العادية التي أصدرتها دار ذات السلاسل دون أية إضافات تذكر باستثناء كلمة الناشر، فأتيح للقراء فرصة اقتناء هذا الكتاب القيم بعد نفاد نسخ طبعته الأولى، ولم يسلم - للأسف- من وقوع بعض الأغلاط المطبعية التي صححها المؤلف في آخر الكتاب، وهناك أغلاط أخرى يسيرة فاته تداركها.
ولعل أفضل ما نختم به هذه الأسطر عن المؤرّخ والباحث الأستاذ سيف الشملان - رحمه الله- هي تلك القصيدة الرائعة التي نظمها الشاعر الأستاذ فاضل خلف، حينما زف إليه صديقه المؤلف نبأ قرب صدور كتابه النفيس عن الغوص، ونقتطف منها هذه الأبيات:
حيوا الفتى واطروا صرير يراعه
وأثنوا بإخلاص على إبداعه
فهو الذي قضى الليالي ساهرا
للمجد يستهويه ومض شعاعه
وهو الذي ضحى بكل حبيبة
ليضم سفر الخلد بين ذراعه
فسلوا سواد الليل عن أحلامه
وسلوا بياض الصبح عن أسجاعه
ثم اسألوا غر الصحائف وهي في
أعراسها عن بينات يراعه
خدم الكويت بعزيمة لا تنثني
وغدا هواها العذب في أضلاعه
** **
- سعد بن عايض العتيبي