نشرتُ سابقا سلسلة مقالات بعنوان «نرجسية اللغة – محمود شاكر أنموذجا»، تحدثت فيها عما سميته «نرجسية الإغراب» حين تولِّد أفانين من العبث اللغوي والمنهجي في تحقيق نصوص التراث خاصة، مطبِّقًا ذلك على ما زعمه استدراكات على اللغويين سجلها في حواشي «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام، واستكمل في هذه السلسلة ما تبقى من الموضوع ناظرا إليه من وِجْهة الفنتازيا، وذلك حين يضع قارئ النص على عينه عدسة مركبة من حقيقة وخيال، فلا يكون تحليل النص التراثي وشرحه كما يجب أن يكون تناولُ أيّ وثيقة تاريخية علمًا وتحقيقا، بل يصبح مزيجا من حقائق وأباطيل، وقائع وخيالات، منهج وفوضى، تلك هي فنتازيا التحقيق!
(1)
روى ابن سلام (2 / 764) لرُؤبَة بن العجّاج يمدح سَلْمَ بن قتيبة:
فصَبَّحَتْهُمْ بُرَحا مِلْطِيْسُ فلا يُحَسُّ منهمُ حَسِيسُ
قد عَلِمَ العالِمُ والقِسِّيسُ أَنَّ امْرَأً حارَبَكم ممْسوسُ
علق محمود شاكر: «ملطيس: من اللطْس وهوالضرب للشيء بالشيء العريض، فقالوا مِلْطَس ومِلطاس للمِعْوَل الذي تُكسر به الحجارة، ولم يرد في كتب اللغة»ملطيس»، وهذا تأويله، من الدق والكسر الشديد».
أقول: إذا صح اللفظ ولم يكن فيه تصحيف فغايته أن يكون من تصرّفات رؤبة التي لا يُتابَع عليها، وقد ذكر اللغويون أنه كان هو وأبوه يرتجلان ألفاظا لا يُقاس عليها، تلَعُّبًا منهما وعبثا باللغة، أو أنه اضطر لقلب الألف ياء لأجل القافية؛ فرِدْفُها في قصيدته ياءٌ وواوٌ، والتبادل بينهما جائز، ولا تجوز معهما الألف. وهذا الوجه هو الظاهر، وكأنّه ضَمَّن «مِلْطِيس» معنى «إزْمِيل»، فجعله بالياء مِثلَه، مُقَوِّيًا بذلك الإبدال. ولو كان للمحقق «تذوّق» عميق في العربية لأدرك هذا ولَعَلِمَ أن هذا موضعُ تصرُّف وضرورة لا يقاس عليه، ولكنه - كما سبق بيانه في نظائر كثيرة – لا يكاد يميز بين أصل وفرع، ومقيس وشاذ، وسَعَةٍ وضرورة، وهذه الصفة هي أبرز صفات المنهج الكوفي في دراسة اللغة وفهمها.
وعلق أيضا على «قِسِّيس» بقوله: «من قولهم: قَسَّ الشيءَ قَسًّا أي تتبّعَه وطلبه. وقالوا: القُسُس، العقلاء الذين يعلمون خبايا أمر الناس، فأخذ منه رؤبة «القِسِّيس»، مبالغة في العقل والمعرفة، وهذا مما لم تثبته كتب اللغة».
أقول: ذكرت المعاجم القَسّ والقِسِّيس، بمعنى الرئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، وبمعنى الكيّس العالم (انظر اللسان. وعبَّر عن المعنى الثاني بقوله: «قِيلَ»). ويدل على صواب الاستعمال الثاني الاشتقاق؛ فهو مِن تَتَبُّع الشيء وطلبِه والتهَدِّي إليه، ولذلك قالوا: «القُسُس»؛ أي العقلاء والساقَةُ الحُذّاق، فإمّا أن الراجز يعني رئيس المسيحيين مقابل»العالِم» مُرِيدًا به رئيس المسلمين؛ أي قد عَلِمَ كبار المسلمين وكبار المسيحيين أنّ مَن عاداك فهو مجنون، أو أنه يعني: قد عَلِمَ كل عالم وعاقل.. إلخ.
وروى ابن سلام (2 /772) بيت مزاحم العقيلي:
مِنّا الذين اسْتَنْشَطُوا الأمرَ [جَهْرَةً] يُقَدِّمُهُمْ عارِي الأشاجعِ أَرْوَعُ
علق شاكر بقوله: «كان البيت في المخطوطة:
منا الذين استشطوا الأمر يَقدمهم عاري الأشاجع في الكريهة أروع
وهو تلفيق في العروض لا أصل له. وظني أن الناسخ زاد «في الكريهة» سهوًا من حفظه، فرأيتُ أن الصواب قريب مما أثبتُّ. وزدتُ ما بين القوسين من عندي لسياق البيت. نَشَطَ الشيء وتَنَشَّطَه: انتزعه وجذبه، فكأنه أراد بقوله «استنشطوا الأمر»: استنقذوه. يُقَدِّمهم: يَحْمِلهم على الإقدام..».
أقول: هذه عَجْرَفة مُبينة! وفَعْلَتُه هذه من أعاجيب عبثه باللغة والرواية؛ إذْ ادّعى أن الناسخ زاد من عنده كلمة، هكذا رجمًا بالغيب! ثم أغرق في خياله زاعمًا أنه فعلها سهوًا من حفظه! ثم تجرأ هو وزاد في البيت كلمة من كيسه! ثم توغّل في مجازفاته ووضع بدل «استشطوا»: «استنشطوا»، زاعمًا أنها مما أخلّتْ به المعاجم!! ونَسِيَ أنها محْضُ اختراعٍ منه لإصلاح بيت مكسور!! فيا لَه من درس في «فنتازيا التحقيق»! نعم البيت ظاهر التصحيف والتلفيق، ولكن كان الواجب إذْ لم يهتدِ للصواب أن يتركه على حاله ويقصّ علينا خيالاته في الحاشية كما يشاء. والأقرب من صنيعه أن تكون «استشطوا» محرفة من «اسْتَدْرَكوا»، فهي مناسبة لمرسوم الكلمة وسياق البيت، وليس فيها اختراع، ويسلم معها الوزن. وقد تكون الكلمة محرفة عن»أشطوا»، يقال: أَشَطَّ في طلبه أي أمْعَنَ، وأشَطَّ القومُ في طلبنا إشْطاطا إذا طلبوهم رُكبانًا ومشاة، وأشَطَّ في المفازة: ذهب(اللسان). ولكن تَبْقى مع هذا الاقتراح مشكلةُ الوزن ومشكلة العلاقة الدلالية مع كلمة «الأمر» التي قد تكون هي أيضا محرفة. و»يَقدمهم» قد تكون محرفة من»قُدْمُهُمْ»، يقال: رجُلٌ قُدُمٌ وقُدْمٌ أي يقتحم الأمور والأشياء، يتقدم الناس ويمشي في الحروب قُدُمًا، ورجُلٌ قُدُمٌ وقَدَمٌ: شجاع (اللسان، ما عدا «قُدْم» بضم فتسكين، فذكرها القاموس المحيط). وقلّدَ مُحقِّقا ديوان مزاحمٍ محمود شاكر، فأثبَتا هذا العبث في نشْرتهما كما هو! (ص 57، ت طليمات ومحيي الدين مينو)، وهكذا يسري العبث في اللغة والرواية في اللاحِقِين – وسبق لهذا نظائر - على أنه تحقيق وعِلمٌ واستدراك! ثقةً من اللاحق بالسابق. ولهذا نظائر أيضا في كتب الأقدمين، نص على كثير منها المؤلفون في التصحيف والتحريف، وبقي بعضها مطمورا في الصحف ينتظر مَنْ يُوَلّي همَّتَه شَطْرَه.
لكن ها هنا سؤال: هل يكفي في تفسير مسلك محمود شاكر أن نذكر الجرأة والمجازفة في تحقيق النصوص ونسكت؟ لو كان هذا كافيا لكان هذا الطرح ضربا من كشف الأخطاء مع التقريع عليها، ولم يكن له علاقة بما انتَدَبْنا له مِن فَتْح مسار بين اللسانيات الثقافية واللسانيات النفسية، من خلال «نرجسية الإغراب» في اللغة؛ إذْ تَفيض النرجسيةُ من ذات صاحبها على نص الآخَر، متوهِّمةً أنه مِلْكُها وأنها أعرف الناس به، فتتلبّسه ثم تحتكره ثم تَتَقَوَّلُه فتُوَلِّد منه نصا آخر! ليس توليد إبداع كما يجري في ظاهرة «التناصّ الأدبي» مثلا، بل توليدا مَرَضِيًّا يُعْرَض على أنه تحقيق وضبْط واستدراك في حين أن حقيقته تحريف وتخليط وهراء. ثم تسري هذه النرجسية اللغوية عَبْرَ الذوات المتشابهة مع الذات الأُولى نرْجَسَةً وانتفاخا، تلك التي تعكف حول صنمها الثقافي وتستمد منه؛ تسري إلى مجالات متنوعة في الفكر والبحث، ناشِرَةً في الثقافة أمراضا في التفكير والبحث والأساليب لا بد من التوقف عندها وكشفها. وسيأتي لذلك مزيد بيان.
(2)
وروى ابن سلام (2 / 721-722) بيت بشامة بن الغدير في وصف ناقته:
تُذْرِي الحصى رَثَمًا مِن تحت مَنْسِمها كما يَرُضُّ سَوادِيَّ القُرى حجَرُ
تُمِرُّ جَثْلًا على الحاذَيْنِ ذا خُصَلٍ كالعِذْق لا كَشَفٌ فيه ولا زَعَرُ
ومنها في تهديد بعض قومه:
فلا تَعُدّوا علينا الزُورَ وارْتَدِعوا فإنّ عندكمُ مِن مَسِّنا خُبُرُ
علق محمود شاكر: «الرَثَم هنا بالتحريك، والذي في كتب اللغة: حصى رثيم ورَثْم (بفتح فسكون) وهو المتكسر. وهذا البيت شاهد على تحريكه»، وقال تعليقا على الآخر: «تُمِرّ، من المرور، ويريد: تحركه يمينا وشمالا. وشرْحُ هذا اللفظ غير بيّن في كتب اللغة».
أقول: أما الرثَم بالتحريك فلا يكفي لإضافته للمعجم مجردُ وروده في هذه النسخة الضعيفة سندا وضبطا. ولو صحّ فلا بد أن يثبت وروده في السَعَة، وإلا كان ضرورة شعرية لأجل الوزن. ولكن المحقق كما سبق لا يلتفت لهذا الأمر، فالألفاظ عنده كلها متساوية في الفصاحة والاستعمال ما دام يشملها مطلق الورود! هذا لسان حاله وإن لم ينطق به لسان مقاله. على أن الكلمة قد تكون مصحفة من «رَتَمًا» بالتاء، وهو نبات دقيق، وتكون الكلمة حالا من الحصى، أي تُذرِي الحصى مُهَشَّمَةً كالرَّتَم، بدلالة قوله «يرضّ». وهذا التوجيه وإن كان فيه بعْدٌ أولى من زعم الاستدراك بلا حجة.
وأما زعمه استدراك الإمرار بمعنى التحريك يمينا وشمالا، وقوله إنّ شرح اللفظ غير بيّن في كتب اللغة فلا أدري أين الغموض في شرح المعاجم للإمرار؟! فقد قالوا: مَرَّ أي اجتاز وذهب، وهذا تفسير كافٍ لمطلق المرور، سواء في هذا البيت أم في غيره من الكلام. ولكن قوله هنا «على الحاذَيْنِ» قيدٌ سياقيّ يفيد معنى التحريك يمينا وشمالا، لأنهما فخذان مكتنفان للذنب يمينا وشمالا، فإذا أَمَرّ الذنب عليهما وكرر ذلك فقد صار الإمرار يمينا وشمالا، ليس لأن هذا التحريك يمينا وشمالا هو من بنية المعنى الوضعي للإمرار كما فهم المحقق بل لدلالة السياق عليه من عبارة أخرى غير لفظة «تُمِرّ»، ولكن المحقق لا يفرق بين معنى وضعي أصلي وآخر إضافي سياقي، وسبق لهذا التخليط نظائر أخرى.
وعلّق على الثالث بقوله: «المسّ أراد به بأسهم وشدتهم وما ينزلون بعدوهم من النكال، من المس باليد، وهو الاختبار. وشرحُ هذا ليس بيّنا في كتب اللغة». أقول: المسّ من أكثر الألفاظ بيانا في كتب اللغة، لأنها من مفردات القرآن، وقد وضعوا لها كتبا خاصة بها كما هو معلوم. وقد ذكروا ما خلاصته أن أصل المسّ هو اللمْس باليد، ثم يستعار لمعان كالأخذ والضرب لأنهما باليد، والجماع، والجنون، وبداية الحمّى، وأول ما يُحسّ من التعب، والعقوبة. وهي في البيت بهذا المعنى الأخير، ولكن المحقق كما سبق يتحكّم؛ فيعبّر في تفسيره بألفاظ معينة ثم يتطلّبها بحروفها في كتب اللغة فإن لم يجدها زعم أنها أخلّت بها أو لم تبيّن معناها، وسبق لهذا نظائر. وتَحكُّمه هذا راجع إلى تخليطه الناشئ من مزاجه الكوفيّ الذي سبق ذكره. وهذه من ثمرات «التذوّق» المزعوم؛ لفظة برّاقة تخفي تحتها فوضى خلّاقة!
وروى ابن سلام (2 / 724) بيت بشامة أيضا:
والمُعْلِمون وعُظْمُ الخيل لاحِقةٌ مبثوثةٌ كعَجيمِ تَرَّ عن جُرُمِ
علق محمود شاكر: «العجيم نوى التمر والنبق وأشباههما، وهذا مما لم تثبته كتب اللغة، والذي فيها: العَجَم، والعُجام. و جُرُم: جمع جَرِيم، وهي البُؤرة التي يُرْضَخ فيها النوى، أي يُدَقّ ويُكسر».
أقول: لا يصح ما قال، فلا شاهد عنده إلا ما في مخطوطته وقد عُلِم ما فيها من ضعف. ومرسوم الكلمة يحتمل أوجها مقبولة مناسبة للسياق لا يترتب عليها إحداث لفظ لا وجود له في كتب اللغة كما هي عادته؛ فيحتمل «جَرِيم» وهو النوى أو التمر اليابس، و«جُرُم» يحتمل تصحيفها عن «صِرَم» جمع «صِرْمَة»، وهي ما صُرِمَ وجُرِمَ من بُسْر النخل، مثل كِسْرَة وكِسَر وقِطْعَة وقِطَع. وإذا صح مرسوم الكلمة الأخيرة فلعل صواب ضبطها: «جِرَم» بكسر ففتح، جمع جِرْمَة بمعنى صِرْمَة. وأيضا لعل «عجيم» مصحفة عن «حَطِيم» أي محطوم، وهو ما تكسر وتناثر من النبات اليابس. ولو صحّتْ «عَجِيم» لم يلزم أن تكون بمعنى العَجَم كما جزم المحقق مخترِعًا لفظا لا وجود له بناء على شاهد مشكوك فيه، فيمكن أن تكون بمعنى مَعْجُوم، أي مدقوق، بل هذا التقدير أولى من إحداث لفظ في اللغة بلا سند صحيح، لأن «فَعِيل» بمعنى «مفعول» ثابت في التصريف، والتأويل للمُشْكِل أولى من إحداث معدوم بلا دليل.
وروى ابن سلام في الأبيات نفسها:
مالتْ عليهم لِغَيْظٍ غَبْيَةٌ بَرَكَتْ فيهمْ، أحاديثُهمْ في الناس كالحُلُمِ
فعلّق شاكر: «الغبية الدفعة الشديدة من المطر، وأراد بها الخيل المغيرة، شبَّهها بغبية مطر. وقوله «بركت فيهم» أي دام مطرها عليهم، حتى كثُرت القتلى، يقال: أَبْرَكَ السحابُ وابْتَرَكَ، إذا اشتد انهلاله ودام وألحّ. وهذا الثلاثي ليس في كتب اللغة. وكان في المخطوطة: «تَرَكتْ فيهم»، وليس بشيء».
أقول: نفيه وجود»بَرَكَ «ثلاثيا من غرائب ظاهريته، فاللفظ مشهور جدا ومنصوص عليه في كل كتب اللغة! ولكنه لما رأى في المعاجم قولهم في صفة المطر: «ابْتَرَكَتْ السحابةُ: اشتدّ انهلالُها، وابْتَرَكَتْ السماءُ وأَبْرَكَتْ: دام مطرُها»(اللسان)، ولم يجد الفعل مقترنًا مع المطر إلا على «افتَعَل» و«أَفْعَل» فَهِمَ أن المعاجم أخلّت بالثلاثي! وهذه حَرْفيّة ساذجة! فاللغويون ذكروا الثلاثي وبينوا عموم دلالته كما جاء في اللسان: «وكل شيء ثبَت وأقام فقد بَرَكَ»، وهذا ما عناه الشاعر هنا؛ أي: نزلَتْ بهم الإغارةُ وأقامت فيهم، ولذلك عَدّى «بَرَكَ» بِفِي، لتَضَمُّن الفعلِ معنى «أقام». والصورة مركّبة؛ شَبَّهَ الخيل المغيرة بالغَبْيَة، وشَبَّه الغَبْيَة النازلة عليهم والدائمة بالبعير البارك المطيل البروك الطاحنِ بزَوْرِه ما تحته. على أنه يجوز أن يكون «تَرَكَتْ» بالتاء صوابا لا كما زعم واثقًا أنها ليست بشيء، وحينئذ تكون «أحاديثَهم» منصوبة على المفعولية، وهذا معنى مُرَدَّد عند الشعراء، كقول ابن حِطّان في الحجّاج:
ذَعَرَتْ غزالةُ قلبَه بفوارسٍ تَرَكَتْ فوارسَه كأمسِ الغابرِ
(3)
روى ابن سلام (2 / 730) لشَبِيب بن البَرْصاء:
ماذا تَلَمَّسُ سلمى في مُعَرَّسِنا كَرَّ الغَرِيمِ لِدَيْنٍ كان قد وَجَبا
أو كَرَّ صاحِبِ ذي الأوجاعِ مُسْنِدَهُ إذا تَأوَّهَ ألقَى فوقه الهِبَبا
علق محمود شاكر: «في المخطوطة كتَبَه هكذا: «مُسْنَدَةً» و»الصَّلَبا»، والثانية سيئة الكتابة. وقوله «مُسْنِدَه « أي قد أسنَدَه إلى شيء مرتفع حتى يستريح. والهِبَب جمع هِبَّة، وهي القطعة من الثوب. يقول: يَكُرّ عليه مرة بعد مرة، فإذا سمعه يتأوّه من شدة الحمّى ألقى عليه الثياب، فهو دائم القلق عليه، غاديًا رائحًا».
أقول: هذا التغيير في المخطوط من جرأته المعهودة، وسبق له - وسيأتي - نظائر. ومقتضى الأمانة أن يُثبت ما في المخطوط كما هو ويعلق بما شاء. على أن التركيب صار بعد تغييره ما غَيَّرَ في الموضعين ركيكا لفظا وسخيفا معنى ولا يناسب أساليب الشعر العربي الفصيح عموما ولا الشعر في ذلك العصر خصوصا؛ فهل من المعهود في أساليبهم أن يُقال: صاحب صاحب الأوجاع؟! («ذي» في البيت بمعنى صاحب)، و»مُسْنِدَه» على ضبْطه حالٌ؛ فكيف يكون صاحبُ المريض حينَ كَرِّهِ عليه مُسْنِدًا له في الوقت نفسه؟! وهل الإسناد يخفِّف من الحمى كما زعم المحقق؟! ولماذا يُلقِي عليه الهِبَبَ كلّما تأوه؟! هل يُخَفَّفُ عن المحموم بإلقاء الهِبَب أو بتبريد جسده بخِرَق مبلّلة ونحو ذلك من الطرق الطبية المعروفة في عصر الشاعر وفي كل عصر؟! ولكنها ثمرات «التذوق» المنفلت من عقاله!
وأَولى مِن قراءته أن تكون «صاحِب» مصحفة من «صالِب» وهي الحمّى الحارة، وتُذَكَّر أيضا، يُقال: «أخَذَتْه الحمّى بصالب، وأخَذَتْه حمّى صالبٌ.. وقد صَلَبَتْ عليه أي دامت واشتدت.. وقيل: الصالب التي معها حَرٌّ شديد..» (اللسان). وكذلك الأولى أنْ تكون «مسْندة» مصحفة من: «مُسْئِدَةً»، من الإسآد وهو «سير الليل كله لا تعريس فيه.. أنشد اللحياني:
لم تَلْقَ خيلٌ قبلها ما قد لَقَتْ من غِبِّ هاجرةٍ وسيرٍ مُسْأَدِ»
يقصد أن الحمّى تَنُوبُه الليل كله فَتَجْهَدُه، فهي كحمّى المتنبي التي لا تزوره إلا في الظلام، وحينئذ يتضح معنى «الصَّلَبا» التي عَبِثَ بها المحقق حين أشكلت عليه؛ فالصَّلَب الوَدَك الذي يخرج من العظام إذا طُبِخَتْ، ويُطلق على الصديد الذي يسيل من الميت (اللسان)، والمقصود في بيت شبيب العَرَق، على حدّ قول المتنبي أيضا في الحمى:
إذا ما فارَقَتْني غسَّلَتْني.. إلخ، فالمعنى أن طيف المحبوبة يُلِحُّ عليه كما تلحّ الأوجاع على صاحبها، مُسْئِدَةً في كل ليلة، كلما تأوّهَ من ألمها وحرّها أَخرَجَ جسدُه العرقَ، وعبّر عن خروج العرق من الجسد بعد التأوّه بالإلقاء إشارةً إلى التخلّص من الشرّ بطرحه، فالمُلْقى هو ما يُنبَذ تخلُّصًا أو هَوانًا. وقد تكون «مُسْنِدَةً» من أَسْنَدَ في العَدْوِ أي اشتدّ وجمد (اللسان)، أي أنّ صالب الحمى اشتدّت عليه، وهي بمعنى الإسآد، لكن «مُسْئدَةً» أجود، لتكرر ذِكرِ الشعراءِ الإسآدَ في سير الليل، كما قال المتنبي أيضا:
فتَبِيتُ تُسْئدُ مُسْئدًا في نِيِّها إسآدَها في المَهْمَهِ الإنضاءُ
لكن يظل البيت مع كل توجيه يستحسنه الذوق وتقبله العربية ولغة الشعر مُشْكِلًا لأنه لا مصدر لهذا الشعر إلا هذه المخطوطة (العتيقة) التي بين يدي المحقق، وهي كثيرة الخطأ والتصحيف، فلا يصح القطع بالجائز لغة وأدبًا حتى يثبت روايةً، خلافا لعادة المحقق من القطع على الظن والتخمين بناء على ما يزعمه من «التذوّق» الذي ثبت هنا وفي كل ما سبق وما سيأتي أنه تَنَفُّجٌ لا طائل تحته. وهكذا هي نرجسية اللغة حين تصل بالمحقق إلى الشعور بأن نصَّ التراث كأنه خرج من فِيه! فهو أعرف الناس بمعناه وأحقُّهم بالتصرف فيه حذفًا وزيادةً وتغييرًا وتبديلا، قاطعًا بأن ما بدّله مِن عند نفسه هو ما قاله الشاعر! ثم يَسْري هذا العبث إلى المؤلفين اللاحقين الواثقين بالمحقق فيتداولون نصوصا مختلفة عن الأصل، وقد يتعرض النص لعبثٍ نرجسيٍ آخر، وهكذا يصيب النصوصَ من العبث والتحريف بقدر ما تتغوّل إليه نرجسيةُ المحقق والدارس والمتذوق. وهذا يتداخل مع مذهب بعض العرب قديما في الرواية على المعنى، كما ذكره الجاحظ من أن الشاعر الحَوْلِيّ قد يمكث زمنًا يبحث عن كلمة تعبّر عن معناه، ثم يأتي أعرابيٌ فيتلقّف البيت ويبدّل كلمة الشاعر التي تعب عليها بكلمةٍ غيرِها لا تؤدي معناها، ولكن الدافع النفسي هنا مختلف، فهذا عبث بدافع التساهل، وما نتحدث عنه عبث بدافع النرجسية، وشتّان ما هما.
وروى بعد البيتين السابقين:
أَلَمْ تَكُنْ زَعَمَتْ بالله مُسْلِمَةً ولم تكن هيَ مِمّا قَضَّتْ الأرَبا
علق محمود شاكر: «مُسْلِمَة، [مِن] قولهم: كنتُ راعي إبل فأسلمْتُ عنها، أي تركتُ رِعْيَةَ الإبل.. وتجيء أيضا غير متعدية بحرف، تقول: كان راعي إبل ثم أَسْلَمَ، أي تَرَك ذلك. يقول: ألم تكن أقسمتْ بالله أنها تاركةٌ ما كانت عليه من المودة والوصل. ثم زاد الأمر بيانا فقال:
ولمْ يكن لها عهدٌ بالوصل تقضي فيه حاجةَ مَنْ يُصْفِيها مودته.. وقوله: «مما قضّتْ» فإنّ «مِمّا» هنا موضوعة للدلالة على معهود يُكْثِر المرءُ فِعْلَه أو إتيانَه. والنحاة يقولون إنها بمعنى «ربما» في قول أبي حيّة النميري:
وإنّا لَمِمّا نضربُ الكَبْشَ ضربةً على رأسه تُلْقِي اللسانَ من الفمِ
والجيد أنها بالمعنى الذي ذكرتُ، للدلالة على طول العهد وكثرة الفعل، وهي موضوعة على ذلك بعد حذف طويل من جملة دالة على هذا المعنى. يقول: قضاؤها أرَبَ مَن يحبها لم يكن لها عادة، فحلِفُها بالله أن تترك ما كانت عليه لنا من الوصل ليس أمرًا مستغرَبًا ولا هو لي بضائر».
أقول: حمْلُه «مُسْلِمَةً»هنا على التَرْك هو من ولعه بالإغراب، فأبْعَدَ النَّجْعَةَ على عادته والمعنى أقربُ مما ذهب إليه، فالأنسب للسياق أن تكون بمعنى التذلُّل والإسماح، كقول العباس بن مرداس (الزاهر 2 / 183):
فقلنا أسْلِموا إنّا أخوكمْ فقد بَرِئتْ من الإحَنِ الصدورُ
وهذا معنى مُرَدَّدٌ عند الشعراء؛ يذكرون إسماح المرأة بعد تأبّيها، كقول امرئ القيس:
فلما تنازَعْنا الحديثَ وأسْمَحَتْ هَصَرْتُ بغصنٍ ذي شَماريخَ مَيّال
وصِرْنا إلى الحُسْنى ورَقَّ كلامنا ورُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إذلالِ
والمعنى: ألم تكن حلفت بالله أن تُسْمِح وتَلين.. إلخ، ويؤيده ذِكْرُه معنى الوعد والإخلاف في موضع آخر من شعره كقوله (طبقات ابن سلام 2 / 729):
طالَ اتّباعيْ أمورًا ما تجودُ بها حتى يئسْتُ فَهَبْني غيرَ مُزْدادِ
ثم استمرّتْ ولم تَقْضِ التي وَعَدَتْ لا يَهْنِئنْكِ إذا أخْلَفْتِ ميعادي
وأمّا ما زعمه مِن ردٍّ على النحاة في معنى «مِمّا» فيصدق عليه هنا قولهم: ليس هذا عُشّكِ فادْرُجي! فالنحاة مختلفون في معناها وليس كما زعم أنهم متفقون على تفسيرها برُبّما، ومختلفون أيضا في تفسير كلام سيبويه فيها (انظر التفصيل في الخزانة10/215)، وإن كان ظاهرُ كلام سيبويه أنها في بيت أبي حيّة وأمثاله بمعنى: مِنْ أمْرنا وشأننا كذا..، أي من عادتنا (انظر الكتاب3/156)، وهو المعنى نفسه الذي زعم المحقق أنه رأيُه!! وأنّى لفِكْر التخليط الكوفيّ أن يكتشف جديدا في النحو؟!
** **
- د. خالد الغامدي