عندما تجتمع موهبة الفنان والناقد تنعكس على الإنتاج الإبداعي الأدبي والنقدي، جون بارت توافرت فيه هذه الخصيصة، بعد قراءته وإعجابه لسرد شهرزاد في ألف ليلة وليلة ومن خلال تقييمه للأعمال القصصية والروائية في زمنه، شعر بالمشكلة، كتب مقالاته النقدية وقرر يطبق أسلوب شهرزاد في أعماله القصصية بعد أن طبقها في بعض أعماله الروائية.. إن بارت لا يكتب قصة ما بعد حداثية فحسب، بل يخبرنا كيف يتم إبداع قصة ما بعد حداثية، فألف كتابه (أدب النضوب the literatuer of exhaustion عام 1967) يقيم من خلاله ظروف الروايات ، فيري بارت « أن التجريب الحديث الذي جعل الفن الروائي فعالية باعثة على الدهشة والأهمية بات يعمل من غير سبب واضح ومن غير أن تنتج عنه تأثيرات طيبة، وراح الكُتاب ببساطة يدورون في فلك ذواتهم ويميلون إلى الفعاليات الاستعراضية، وعلى الرغم من احتكامهم إلى الكثير من الحيل المستحدثة لكنها بدت نوعاً من التجريب الهادف لإحداث صدمة أو دهشة أو نقل إحساس بشطارة الكاتب وليس أكثر من هذا ( ماتز ، 2016 صفحة 283) .
وأكد بارت بقوله « إن الأمور قد انحدرت إلى إنتاج أدب الإمكانيات المستنفذة أو ( النضوب ) والى نوع من التقليد الخاص بالتمرد ضد القائمة «.. وتساءل أخيرا في مقاله قائلا « أين كان الكُتاب الذين في قدرتهم ممارسة التجريب الهادف ، الذين يستطيعون بالفعل إمتاع الناس بابتكاراتهم المدهشة، وفي الوقت ذاته إيجاد المسلك الصحيح بين (الحيل المستنفذة ) والكتابات التقليدية ) ( الصفحة نفسها ).
وبناء على ذلك بدأ بارت في كتابه مجموعته القصصية ( تائه في بيت المرح The Lost in House Fun ) وهي مجموعة قصصية مستوحاة من أسلوب سرد ألف ليلة وليلة الذي تأثر به بارث خصوصا (أسلوب الإطار والمحتوى )، وتتكون مجموعة ( تائه في بيت المرح ) من أربع عشرة قصة تتميز بأسلوب ما وراء السرد، وطبق فيها بارت كل الأساليب والتقنيات الفنية في سرد شهرزاد، وحقق فيها أمله في تطوير الأسلوب السردي بعد النضوب الذي تحدث عنه في مقالاته.
حكاية التائه في بيت المرح ( اللهو )
أبطال القصة هم (امبروز Ambrose وأخوه بيتر Peter وصديقتهم ماجدة Magda )
تتمثل أحداثها في حكاية رحلة الصبي آمبروز البالغ من العمر ثلاثة عشر عاما ، في أول سنوات المراهقة إلى الشاطئ مع عائلته ، في الرابع من يوليو العيد اليوم الوطني الأمريكي ومعه في الرحلة ، شقيقه الأكبر بيتر البالغ خمسة عشر عاما ، ومعهما ماجدة وهي فتاة في الرابعة عشرة من عمرها وهي صديقة لهما تعيش بالقرب منهما ويصطحبهم في الرحلة عمها ووالدتهما ووالدهما ، وعمهما كارل.
عندما يصلون إلى الشاطئ ينجذب كل من أمبروز وبيتر إلى ماجدة ويشعر امبروز بالقلق بشأن كيفية التفاعل مع ماجدة ، يذهبون عبر الممشى الخشبي حتى يصلون إلى بيت المرح Fun House يدخلون بيت المرح ، تواصل ماجدة مع بيتر المشي في بيت الفرح.
يتضح فجأة لأمبروز أنه أساء فهم معنى بيت المرح ( اللهو ) المرتبط بالجنس والذي لم يكن مستعدًا له بعد. كما أنه يدرك أنه مختلف عن أخيه وماجدة: فهو ليس في عمرهما ، وليس من النوع الذي تستمتع به بيوت المرح.
يأخذ أمبروز منحى خاطئًا ويضيع طريقه في بيت اللهو، خلال عملية إيجاد طريقة للخروج من الممرات المظلمة ، توصل إلى بعض الإدراك والفهم لنفسه ولبيوت اللهو .
وتعرض القصة بعض الصور المكثفة لاكتشاف ومعرفة (الذات والهوية ) من خلال ضياع امبروز وحيدا داخل هذا المكان ، وبيت (المرح أو اللهو ) هو عبارة ترمز إلى بيت اللهو لأنه يمثل ( التجربة الجنسية الأولى لامبروز) والرحلة نفسها إلى بيت اللهو تعتبر استعارة بأسلوب بارث ما بعد الحداثي ، كما أن بيت اللهو يعتبر استعارة متعددة الطبقات والجوانب ، ففي بيت اللهو مرايا في كل مكان ، ويعني ذلك أن البطل امبروز يجب أن يرى نفسه منعكسا في جميع الأشكال والأحجام.
تبدأ القصة بسؤال : « لمن يكون بيت المرح ؟ For whom is the funhouse fun?
وتأتي الإجابة « انه للمحبين for lovers ) ،
وتتساءل القصة في بدايتها ، وتقول : «إذا كان بيت المرح يشكل للآخرين مصدر سعادة ومتعة ، فانه بالنسبة لامبروز يعتبر مصدر خوف وارتباك « ( ص 69 )، لان فيه زوايا ودهاليز» محملة بأعشاش العناكب ذات الخيوط السوداء ( ص 87 ) وبمتاهاته المحيرة والخادعة، يعكس الملهى على نحو ملائم طرق الاشتغال المعقدة والمتشابكة لعقل شاب يافع ذي حساسية بالغة ، وذي نظارات سميكة يعاني من عجز بدني واجتماعي ( صفحه 84 )
ويحكي بارث عن ظروف العلاقة والرحلة يقول :
« وبأعصاب لا تصدق ومفاجأة للجميع ، دعا ماجدة بهدوء وأدب للذهاب إلى بيت المرح معه وأضاف ضاحكا بسهولة : أنا أحذرك لم يسبق لي أن مررت به من قبل ، لكنني اعتقد انه يمكننا إدارة الأمور بطريقه ما ، الشيء المهم الذي يجب تذكره بعد كل هذا هو انه من المفترض أن يكون بيتا للترفيه وهذا هو مكان التسلية ، إذا ضل الناس حقا أو أصيبوا أو خافوا بشدة من ذلك ، فسيخرج المالك من العمل «.
ويصور بارت حالة امبروز في الملهى ويقول « لم يكن بإمكان امبروز إلا أن يجلس ويشاهد نفسه يشاهد شقيقه بيتر الذي لا يبالي بأي شيء أو الذي لا يملك حتى عشر خيال امبروز وهو يداعب محبوبته ماجدة التي - وكما كان يلاحظ امبروز دائما - تملك جسدا يفوق سنها ، ونرى آمبروز يتذكر نفسه يلعب لعبة « العبيد والأسياد « رفقة ماجدة اللعوب . لكن رغم ميوله لماجدة وتلميحها وتشجيعها له ، لم يستطيع آمبروز أن يستسلم للحب بعفوية « (ص 80 ).
« إنها حالة ما يسمونه بالهوى ، وأنا الآن بصدد تجربتها « ( ص 81)
ويجسد بارت انفصام شخصية امبروز بين رغباته وقدراته وجراءته ويصف ذلك في هذا النص، « فبينما كانت ماجدة منهمكة في إغوائه ، لم تلفت انتباه آمبروز سوى علامة على علبة السجار التي كان يحفظ فيها عمه معدات تقطيع الأحجار ، ويقف هناك ليفك ما كان مكتوبا على العلبة ويتمعن في التفاصيل الدقيقة لصورة « سيدة ترتدي ثوبا رومانيا فضفاضا وتحمل تاجا من الورد على رأسها « وتجلس بالقرب من قيثارة ذات خمسة أوتار « ( ص 74).
كما يستعين بارت في حكايته هذه بتزويد الملهى بمراياه المشوهة التي تشظي صورة الواحد إلى عدد غير متناه من الصور باستعارة مناسبة للصدع الموجود في هوية آمبروز وفي رؤاه المتناقضة والمتصارعة التي تتنافس على ولائه :
« تحسب أنك وحدك، لكن ثمة أشخاص آخرين فيك ، ينتصب آمبروز في اللحظة التي لا يرغب آمبروز فيها ذلك ، والعكس صحيح ، آمبروز يعاينهم يختلفون ، آمبروز يعاين نفسه يعاين في الملهى حيث الغرفة المملوءة بالمرايا ليس باستطاعتك أن ترى نفسك تمر باستمرار، لأن راسك يقف حاجزا في الطريق كيفما وقفت « ( ص 81).
ونتيجة لهذا الموقف وهذا الإحباط واحتقاره لنفسه ،يعبر امبروز عن حالة قلقه في دخوله في قوله « انه لم يدخل بيت المرح قط ،لكنه دخل ، ثم تمنى لو انه ميت ، لكنه ليس بميت ، لذا انتابته رغبة تأسيس ملهى للآخرين يكون هو مشغل الملهى - ولو انه في حقيقة الأمر تمنى لو كان وسط العاشقين الذين صممت لهم الملاهي « ( ص 94 ).
تجديد الأدب عند بارت
بعد مضي عقد من السنوات على تأليف كتابه عن أدب النضوب كتب بارث كتابه عن ( أدب التجديد the lietrutire of Replenishment ) ووضح فيه « أن الرواية هي إعادة ضخ بعض الحيوية في مهمتها التجريبية، واستعادة القدرة على الارتقاء بأهداف الرواية الحديثة ، ولكن بقي مستقبل الرواية الحديثة غير مؤكد لان تلك السنوات شهدت شيوع نزعة ما بعد الحداثة Postmodernism جلبت تلك النزعة إلى الميدان الرواية نوعا جديدا متطرفة من التجريب المقترن برؤية تشكيكية أكثر قسوة من تلك التي جاء بها المحدثون الروائيون «.
كما جاءت نزعة ما بعد الحداثة بتحد خطير لفكرة امتلاك الرواية أو (أي عمل فني ) لأي تأثيرات أو نتائج ذات طبيعة خلاصية ، بدا أول الأمر أن حقبة ما بعد الحداثة عنت نهاية الرواية الحديثة ولكنها استحالت في نهاية الأمر (تجديدا ) للرواية الحديثة ، وبعد أن هددت هذه الحقبة بوضع نهاية للإيمان بالمقدرة الروائية على تمثل الواقع انتهت في خاتمة الأمر لتكون ترياقا لعلاج الكثير من المعضلات التي تركت بلا حلول ناجعة منذ الأطوار المبكرة من نشأة الرواية الحديثة « ( ماتز ، 2016، ص 284).
قصة عشر ليالٍ وليلة : إحدى عشرة قصة
يجدد بارت أسلوبه في الكتابة ما بعد الحداثية في مجموعته الأخيرة ( كتاب عشر ليالٍ وليلة
The book of ten nights and night التي تضمنت إحدى عشرة قصة قصيرة ، ظهرت في عام 2001 وجاءت بعد حادثة 11 سبتمبر.
يقدم كتاب العشر ليالٍ وليلة إحدى عشر قصة، وهي نموذج لعبقرية وأسلوب جون بارث رائد رواية ما بعد الحداثة الأمريكية كما يعتبره بعض النقاد تجديدا لقيمة الأدب في الحياة في وقت الأزمات ، يجمع هذا الكتاب عدة قصص لم يتم جمعها من قبل ، جمع القصص المكتوبة طوال الحياة المهنية الطويلة ما بين 1960 وعام 2000 م ما بعد الحداثة ، تمتد المجموعة لتشمل مجموعة كاملة ومتنوعة من الأساليب القصصية ، مثل ( السرد المباشر إلى ما وراء القص التجريبي) في الفترة الذي أعقبت حادثة 11 سبتمبر 2001 مباشرة . يحكي القصص زوجان من الستينيات ، ومعظم القصص من التسعينيات. في هذه المرحلة المتأخرة من حياته المهنية ، والراوي المخضرم المسمى جرايبارد Graybard يمضي أحدى عشرة ليلة مع ملهمته أو جنيته التي تدعى WYSIWYG (ما تراه هو ما ستحصل عليه). والتي تحكى على مدار إحدى عشرة ليلة - على وجه التحديد - ، الليالي بين 11 و21 سبتمبر 2001. يناقش العاشقان معنى وملاءمة الكتابة ورواية القصص في أعقاب الكارثة ، تحكى قصة جديدة كل ليلة بنفس ( أسلوب شهرزاد).
ويجمع قراء عرض (كتاب العشر ليالٍ وليلة ) على انه مزيج مثير من المرح والبصيرة المنيرة التي ميزت بارث كواحد من أكثر الكتاب الأمريكيين ، في قدرته على الترفيه والمرح ، مما يجعل حتى أكثر الحوادث الدنيوية مثل ( العثور على خاتم زواج مفقود ، وخلاف بين العشاق ) أمرًا مرحاً ومضحكًا ومؤثرًا. على الرغم من أن موضوع القص المتكرر فيها هو ( الشيخوخة) إلا أن التركيز ينصب على الحياة اليومية والبهجة التي يمكن العثور عليها في الحياة والحب.
ملاحظة أخيرة على الرغم من شهرة جون بارت العالمية ، إلا أني لم أجد له قصصاً أو روايات مترجمة إلى اللغة العربية في قواعد البيانات الالكترونية ، رغم وجود الأطروحات والرسائل العلمية عنه باللغة الإنجليزية في بعض جامعاتنا العربية.
... ... ... ... ...
هوامش
1 - لحسن بن اعزيزه ، محاكاة جون بارت لشهرزاد : ألف ليلة وليلة في المتخيل الأمريكي ما بعد الحداثية 2017 (اعتمدت علي ترجمته في بعض النصوص القصصية).
2 - ماتز، تطور الرواية الحديثة ، ت. لطفية الدليمي ، 2016، دار مدى للإعلام وللثقافة والفنون ،بغداد، العراق.
- Barth , John, Lost in Funhose ,live foice, new York ,Bantom book,19803
- https://www.goodreads.com/book/show/50411.The_Book_of_Ten_Nights_and_a_Night4
-5- Maryam Moosavi Majd, Nooshin Elahipanah (2015) ,. The Enchanted Storyteller: John Barth and the Magic of Scheherazade. The Enchanted Storyteller: John Barth and the Magic of Scheherazade
** **
- ناصر محمد العديلي
Chmq2012@gmail.com