د. إبراهيم بن محمد الشتوي
أتذكر أنني قرأت مرة تغريدة للأستاذ محمد آل الشيخ الكاتب في جريدة الجزيرة يقول فيها: إن السلفية لا يمكن أن تكون إلا تعظيماً من سلف، أو كما قال، والجملة على وجازتها وبساطتها، تطرح إشكالية اتخاذ السلفية منهجاً، وذلك أنها تقوم من وجهة نظره على تعظيم القديم بوصفه قديماً.
وبغض النظر عن أن تكون هذه الجملة تعريفاً صحيحاً دقيقاً للسلفية أو حتى توصيفاً لها، وأنني لن أفيض في الحديث عن تعريف السلفية، فإن اتخاذ القديم اتجاهاً بناء على أنه قديم لا يمثل مشكلة معرفية أو اجتماعية وإنما يمثل مشكلة وجودية، بمعنى الوجود في القديم، أي في الزمن الماضي، ورفض العيش في الحديث، وهو ما ينتج عن المشكلة المعرفية والاجتماعية.
أقول هذا الكلام في مناسبة قراءتي الأخيرة لكتاب طه حسين (الأيام)، وما فهمت منه أنه يرى -في ذلك الوقت- أن الأزهر يتبنى القديم بوصفه اتجاهاً يمثله، فهو يقوم بتدريسه، ويدافع عنه، ويرفض أي محاولات للجديد، ولا يرى بأساً في ذلك بناء على أن القديم (أو ما يُسمى بالتراث) يستحق أن يكون له مدارس متخصصة تتبناه، وتقوم عليه، وتقصر عملها عليه.
وهي للوهلة الأولى فكرة براقة، بيد أنها ينبغي أن تكون، على هذا المنطق، مؤسسة نوعية، مثلها مثل كل المؤسسات التي تعنى بتخصص واحد دقيق دون التخصصات، وحين تكون بهذه الصورة، فإنها أيضاً ينبغي أن تحمل سمات تلك المؤسسات التي أهمها أنها تعبر عن اتجاه محدود ضمن عدد من الاتجاهات، وهذا بدوره يعني أن يكون المنتمون إليه محدودي العدد بوصفهم يمثلون هذا الاتجاه، وليس اتجاها عاماً يمثل الاتجاه العريض من الناس.
إضافة إلى أنه سيكون اتجاهاً علمياً، يعنى بالدرس والنقد، والبحث، والمراجعة، أشبه ما يكون تكوينها بما يُسمى (معاهد الاستشراق) التي تتناول الفكر والأدب الشرقي مع الأخذ بالعناية حصره في دوائره، وكأنه أبحاث في مختبرات علمية لا ينبغي أن تخرج منها إلا بمقدار.
وفي هذه الحالة لن يكون القديم اتجاهاً إلا لأشخاص محددين اختاروه لأنفسهم، وستظل هذه المدارس التي اتخذته موضوعاً لدرسها معاهد تعيش في الزمن المعاصر، وتتخذ أسلوبه، وطرائقه، ولا تختلف عن سواها إلا بموضوع الدرس، وسينحصر موضوع الدرس بأنه موضوع للدرس ليس أكثر لا يتجاوزه إلى سواه من الوظائف، ما ينفي عنه أن يكون اتجاهاً سياسياً أو اجتماعياً.
إلا أن الحالة التي تبدو عند طه حسين، وقد لا تكون خاصة بالأزهر وحده، هي أنه عندما يكون القديم اتجاهاً وتتبناه عدد من المؤسسات، فإنه يصبح الاتجاه العام للفئة المنتمية لهذه المؤسسات، وهو ما يجعلها تتخذه حياة ومنهجاً تعيش فيه ومن أجله، ولا تتجاوزه في ذلك مقدار أنملة.
وحين تفعل ذلك، فإنها تتحول إلى القديم الزمن، وتعيش فيه من خلال خلق الظروف القديمة، وإنشائها، وجعلها تحيط بها من كل جانب، سواء على المستوى الاجتماعي أو المستوى الفكري والرؤية، وهنا بالتحديد هو ما يمكن أن تختلف فيه الآراء، فإذا كان خلق ظروف اجتماعية قديمة أمراً مرفوضاً عند كثير من القطاعات باعتبارها تعتمد وسائل لا قيمة لها الآن، وباعتبار أن الوسائل المعاصرة أكثر إنتاجاً وأكثر راحة، فإن الرؤية الفكرية والمنهجية والعلمية قد لا تكون محل اتفاق كذلك، بل هي موضع خلاف شديد ومحاجة وخصام، يأخذ كل حزب من الناس منها بطرف يتعصبون له وينافحون عنه، وقد يعادون عليه ويوالون.
وبعيداً عن هذا الاحتراب الذي قد يدخل في الصراع السياسي، فإن الحديث هنا لا يتناول هذه الرؤية السياسية بقدر ما يتناول هذه الرؤية من داخلها محاولاً سبرها، وتصويرها بالصورة التي تظهر عليها في المحصلة النهائية للفعل نفسه بعيداً عن رأي الخصوم أو المؤيدين.
فإن تحول القديم إلى اتجاه يحكم الرؤية في المنهج والعلم، يؤذن بالالتزام بالقديم، واتخاذه أسلوباً في النظر والتفكير، وهو لا يقضي بتجاهل التطور في العلوم والمناهج خارج المعارف القديمة وحسب، وإنما يقضي بالقضاء على فرص تطور القديم نفسه، وقدرته على التوسع، واكتشاف مجالات وحقول معرفية جديدة بالانطلاق من الأساس العلمي والمعرفي للقديم، إضافة إلى أنه يقضي على كل فرص لإثراء القديم نفسه باكتشاف زوايا نظر لم تكن موجودة من قبل، وتوسيع الرؤية نفسها في مناطق عقلية لم تكون قد تناولها المنهج القديم.
إن اعتماد القديم منهجاً لا يقضي على الحاضر والمستقبل وحسب، وإنما يقضي على القديم نفسه، ليس بحرمانه من التطبيق، وإنما بحرمان من يطبقه من التطور والتقدم والتنوع والثراء والاختلاف، وهو ما يفضي في الوقت نفسه إلى الحكم بفساد المنهج القديم، وعدم صحته وقدرته على صلاحية استمرار التطبيق بناء على التزامه صورة واحدة، ورؤية واحدة، وزاوية واحدة، تجعل من يستعمله وينطلق منه يدور في دائرة واحدة لا يمكن أن تكون شاملة لجميع مناحي الحياة والعلوم مع التطور الذي شهدته الحياة وكشف عن ثراء الإنسان وتعقد تكوينه.