د.سهام صالح العبودي
حين وضع الله سبحانه وتعالى الإنسان موضع المسؤوليَّة تجاه مصيره جاء اقتضاء خلقه موفيًا بحاجته إلى الوسائل الهادية إلى هذا المصير؛ فكان أن جعل له العينين واللسان والشفتين، مستقبلاتِ الوعي ومرسلاتِه، آلاتٍ معجزةً تترجم له وعنه، وتفتح مستغلقات أسئلته، فيصعد أو يهوي بالكلمة التي تُسمع أو تُقال.
تنبئ اللغات عن تنوِّع معجزٍ يدلُّ على عظمة الخالق في وحدة الخلق وتعدُّد اللسان، واختلاف نُهُج البيان؛ واختلاف اللغات يعكس صورة التفكير، وهويَّة الحضارة، وعوامل الأمكنة، وتحوُّلات الأزمنة؛ ووجود لغة يعني وجود مخزون يحيل إلى تلوُّن الفكر الإنساني، وتعديد اتجاهات التفكير، ومستندات الرؤية.
لم تُناقض عربيَّة القرآن يومًا عالميَّة الرسالة التي يحملها، أو إنسانيَّة القيم التي تصدر عنه، فكان استعراب الأعاجم الطامعين في فهمه واستكشافه دليلًا على أنَّ فهم كتاب سماوي هو ضرورة إنسانيَّة، ليس للمنتمين إلى رسالته وحسب، بل للراغبين في الاتصال مع الذين يدينون به.
وحين بلغت الأمة الإسلاميَّة أوجَ قوَّتها وغاية امتدادها اقتضى ذلك بالضرورة بلوغَ لغتها وثقافتها ومناحي حضارتها تلك الأمم، ليس لكونها أمَّةً ذات فعل سياسي وعسكري فقط، بل للقوة الحضاريَّة التي صنعتها عقولها، وللطاقة التعبيريَّة والجماليَّة التي امتلكتها اللغة العربيَّة لذاتها، ناهيك عن قيمتها الروحيَّة بوصفها لسانًا لدين سماويٍّ، وضرورةً لفهم كتابه.
يأتي موضوع (التواصل الحضاري) المختار عنوانًا في احتفال أهل اللغة العربيَّة بيومها منسجمًا مع عالمٍ لا يظهر إلَّا مجتمِعًا ومتصلًا ومتقاربًا في فضاءات لا تفتأ تتسع وتجمِّع البشريَّة صوتًا وصورة وفكرًا؛ استجابة لضرورة التكامل، والمنافع المتبادلة.
وإذا كانت مسألة التواصل الحضاريِّ حاصلة ومستمرَّة بالضرورة، فإنَّ علينا أن نؤكِّد أن التواصل المقصود هو ذلك التفاعل الواعي، الذي يؤكِّد الحفاظ على أصول هذه الحضارات، وقيمها الفكريَّة مع ثبات مرجعيَّاتها التي تستند إليها. كما يضمن التقابل والتفاعل بين حضارتين لا الاستقبال السلبي الخاضع.
يمكننا النظر إلى النصوص العربيَّة التي تؤكِّد حتميَّة التواصل، بل تدعو إليه محقِّقًا خصبًا معرفيًّا حين يكون واعيًا ومدروسًا، وهي شواهد في حقِّ الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة تنقض ادعاءات جمودها، وتحيُّزها وتعصُّبها، ولا يمكن في هذا المقام أن نغفل عن مرونة القبول، وسعة الأفق التي امتاز بها العقل العربيُّ، وظهرت إشاراته في كتب المتقدِّمين.
يقول الجاحظ – وهو يحثُّ على الاطلاع، والانتفاع من خلاصات عقول الأمم، ومنتخبات آدابهم ومعارفهم – : «فهذه الفرسُ ورسائلُها وخطبُها... وهذه يُونان ورسائلُها وخطبُها... وهذه كتبُ الهندِ في حِكَمِها وأسرارِها وسيرِها وعللِها. فمن قرأ هذه الكتبَ، وعرفَ غورَ تلك العقول، وغرائبَ تلك الحِكمِ، عرف أين البيانُ والبلاغة»*.
ولم تعمَ العين العربيَّة عن فضائل سواها من الأمم، بل رأت في سبقها معينًا، ونظرت إلى المعرفة مطمعًا شريفًا مشاعًا، ويقرُّ ذلك أبو حيَّان التوحيدي في كتابه (البصائر والذخائر): «الأممُ كلُّها شركاءُ في العقول، وإن اختلفوا في اللغات»**.
هذا الانتفاع قاد إلى فتح باب كبير للتواصل هو (الترجمة)، فتحقَّق بهذا التواصلِ اللغوي بين لغتين انتقالٌ هائل للمعرفة بين الأمم، ولا يجب أن يُظنَّ تفضُّل المنقول منه على المنقول له، ففي طيَّات تلك العمليَّة الفكريَّة المعقَّدة منافعُ للطرفين، فاللغة المستقبِلة تُغذِّي كما تُغذَّى، وشاهد ذلك ما نقرؤه في مقدِّمة تحقيق كتاب (كليلة ودمنة)***: من أنَّ النسخة العربيَّة المترجمة حفظت هذا الكتاب؛ إذ فُقد الأصل الفهلويُّ الذي أُخذت عنه الترجمة العربيَّة، وفُقد بعض الأصل الهندي الذي أخذت عنه الترجمة الفهلويَّة، وهو ما جعل النسخة العربيَّة هي (النسخة الأم)، فكأنَّ حضارة قد اعتنت بميراث أخرى من غير قصدٍ إلَّا قصد الانتفاع من المعرفة الإنسانيَّة من أين كان مصدرها.
- - - - - - - - - - - - - - -
* البيان والتبيين، الجاحظ، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة. 3/14.
** البصائر والذخائر، التوحيدي، تح: د. وداد القاضي، دار صادر.1/228
*** كليلة ودمنة، ابن المقفَّع، تح: عبد الوهاب عزام وطه حسين، مؤسسة هنداوي. ص12.