عبدالعزيز صالح الصالح - الرياض:
يقف المرء أحياناً مشدوهاً أمام روعة وسيرة وحياة ذلك المفكر والأديب والشاعر والمثقف الذي يعتبر عملاقاً من عملاقة الأدب العربي في بلادنا خاصة وفي وطننا العربي الكبير عامة الدكتور (غازي) -يرحمه الله- فالحديث عن هذا العملاق يطول ويطول ويحتاج إلى صفحات عدة فقد أعطى من جل وقته في التأليف والأعداد وقد أعد من تجاربه القيمة (كتاب فن الإدارة وكتاب الاستثناء) وقد برز اسمه عالمياً بسبب كتبه التي يقدر عددها سبعين كتاباً متنوعة في عدة مجالات بين القصة والرواية والمقالة النقدية والشعر فقد ظل طول حياته حاضراً ومشاركاً يدافع عن أمته بصوته وقلمه، فلا تزال أعماله الجسام وحكمه النيرة وأقواله المؤثرة ومآثره الإنسانية حديث الناس من يعرفه ومن لا يعرفه فهو متعدد المواهب على الرغم من رحيله عن دنيانا منذ (اثني عشر عاماً).
فقد تحدث عنه الكثير والكثير عن أعماله وعن خصاله وعن مآثره من شخصيات بارزة داخل البلاد وخارجه ومن رجال فكر وأدب وإعلام داخل البلاد وخارجه، فلا يزال الحديث عنه بين الفينة تلو الفينة، فأنا أكتب عن هذه الشخصية العملاقة التي تركت إرثاً أدبياً رائعاً في هذه الحياة، مما جعلني أتناول تلك الرمز المضيء في عدة مجالات سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو أدبية أو إنسانية ذلك الرجل العملاق الذي كرس جهده وفكره وعقله وعلمه وقلمه خدمة لأبناء هذا الوطن المعطاء، فهو كاتب متميز وقاص متمكن وروائي بارز وسياسي بارع وشاعر فذ جدد وأبدع ونمق وجود ووزير متألق ومخلص، كانت حياته العملية سفراً دائماً وترحالاً لا يستقر بسبب حقائبه الوزارية المتعددة التي أوكل بها في عدة قطاعات حكومية من أستاذاً جامعياً ثم رئيساً لقطاع سكة الحديد ثم وزيراً للصناعة والكهرباء، ثم وزيراً للصحة ثم وزيراً للعمل فقد كانت له عدة لمسات في عدة مشاريع عملاقة أشرف عليها أو كانت له الفكرة الأولى في تأسيسها فكان -يرحمه الله- جاد في القول والعمل قوي الذاكرة حافظاً لا يمر به شيء إلا وعاه وقد ألف العديد من الكتب والقصص والروايات ودواوين الشعر التي تحتوي على خير ما جادت به القرائح العربية.
مما يدل على ذاكرة نادرة المثال ويبدو على قصائده الشعرية أنه ميال إلى العلم والفلسفة فخرج شعره مثقفاً طابع المنطق والفكر والذوق والحس، لو تصفحت قصائده الجميلة، فأخذك العجاب والتأمل والتفكر والتريث، وذلك لكثرة ألفاظه الجديدة والغريبة وكلماته العجيبة وعباراته المعبرة، فقد استطاع -بعد توفيق الله- صياغتها بقالب أدبي رفيع المعاني والأهداف، وتمكن من حفظها وإخضاعها للنظم الدارجة، وعندما يلقي قصيدة (ما) أمام الحضور فإنه مثير بارع يشد المتلقي بمهارة فائقة وحكمة نادرة فإن رأيه مسموع وقراره مستجاب.
فإنه يختار للقصيدة الألفاظ التي تناسب الحدث والإشارات التي توافقها، فإذا قرأت قصيدة من قصائده وجدتها أشبه بالثوب الذي أتقن تفصيله، وحسن قياسه على قدر الممدوح فإنه يعتمد على البحور الطويلة في الشعر، وكذلك القصيرة وعلى الألفاظ الفخمة الطنانة التي تعطيك الصورة الصوتية إلى جوار المعاني المقصودة من الألفاظ والتراكيب اللغوية القوية، فهذا يدل دلالة واضحة على تمكنه وتمرسه وإتقانه في إلقاء الشعر العربي الفصيح، وكذلك سعة احتكاكه بالواقع الذي يعيشه، فهو يجدد لكل عنصر من عناصر القصيدة، وذلك من خلال الدقة والإتقان، كما أنه لا يستطيع أن يحكم على أعماله وأقواله بالدرجة العالية.
فإنه يُعد بطلاً وفارساً مغواراً في مجال الشعر والأدب عظيم المواهب السامية والخصال الرفيعة عظيم في آثاره، ونبل أعماله، وعظيم في فضائل نفسه وسمو خلاله، عظيم في التعلم والعمل، وفي المنشط والمكره، وعظيم في الأخلاق، وعظيم في تواضعه وفي رفعته وهو من الطراز الذي يقل أن تجد هذه الخصال تتوفر في إنسان إلا نادراً، وهي تعتبر من أبلغ الحقائق والشواهد على ما نقول، فقد اشتهر الدكتور (غازي) -يرحمه الله- بحبه الشديد لقومه، لا يفرق بين فرد وفرد، فكانت تلك الصفات تبرز كل يوم، كما تشرق الشمس أو يطلع القمر، فقد كان يرى نفسه أنه مدعو دائماً إلى عطاء موصول، وسهر لا يفتر، ينصف المظلوم ويعطى المحروم ويغيث الملهوف، فقد كانت دبلوماسيته الحكيمة، تقوم على كثير من المعرفة والحكمة والعلم والتعقل والنظر البعيد، ولا شك أن عوامل الوقاية، التي ترتكز عليها الدبلوماسية الحكيمة التي يتصف بها أنها تتمثل بالأفكار البنَاءة التي تعمل على اللقاء والوفاق فإن كتاباته وقصائده الرائعة تمتاز بكلمات حلوة أخرجها من أعماق القواميس كما تستخرج اللآلئ من أعماق البحار، أو بمعانٍ أبكار لم يسبق إليها فعندما يتصفح المرء الروايات والقصص يجد أنها قطعة من الموسيقى تنقلك إلى عالم ملهم وتبعثك في نفسك خيالاً يتجدد ولا يجمد، وحساً مشبوباً يتوقد ولا يهمد!!!
فإن قصائده الشعرية كافة تشبه نعنعة الماء، لا يفضل بعضها على بعض تنفث السحر كالفجر، وتغدق السلوى كالليل، نفسها يتصاعد موسيقى، وصوتها يضوع طيباً، فكل قصيدة قالها في حياته، كانت بمثابة سجل دقيق المعاني مشرق الصور، عميق البيان لما يعتلج في قلوب محبيه من حب الوطن والعروبة، فإن الدكتور (غازي) -يرحمه الله- لم يمت، ولكنه انتقل من عالم الفناء إلى عالم البقاء فإنه حي في قلوب محبيه، فذكراه طيبة، ومآثره الإنسانية، تعطر مجالس الأدب والشعر بعبير عطائه، فقد أعطى أمته الكثير والكثير من جهده وإخلاصه وتفانيه في العمل، وأدبه الرفيع أوفر العطاء واسمى المحبة والوفاء.
فقد ملأ منتديات الأدب والشعر بتحف من روائع قصائده الشعريَة الخالدة. وعلى الرغم من مسؤولياته الجسام، إلاَ أنه لا ينقطع عن الدراسة وقراءة الكتب ونَظم الشعر وتدوين المؤلفات وكتابة القصص والروايات، وكان مجلسه العامر بحق لا يمل شاعراً متألقاً وبارزاً على الساحة في متاهات الفكر وفي دروب العاطفة، شاعر في أرض الواقع وفي دنيا الخيال شاعر في الصحراء وفي الخضراء وفي البحار، فالشعر ملء إهابه، والرؤى الشعرية دفقُ وجدانه، تحس بأنك أمام أستاذ بارع في الكلمة ومهندس لها وبارع في إلقاء الشعر، طويل الباع والذراع، جم الشاعرية خصب الخيال؟ لأنه يسلك الدروب الشائعة في القصيد وزناً وقافية و(تقاسيم).
لقد عاش للشعر، وللكلمة، كما عاش للفكر وللأدب وللقيم، حيث إنه توخى الاستقامة في مسالكه فكان يدعو إلى التجديد دائماً، ويسبق الزمن بآرائه مقترحاته وتطلعاته المستقبلية في الأدب والفكر والسياسة والشعر، فالدكتور (غازي) شاعر ذو رسالة كبيرة، ورسالته التي جعل الشعر وعاءها وهدفه التآخي في ظلال حرف الضاد الفيحاء، ومبتغاه الانطلاق إلى مزيد من الارتقاء الفكري والحضاري.
وختاماً:
رحم الله الدكتور (غازي) رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، وستبقى مآثره الإنسانية وأعماله الجسام قدوة ونبراساً لأمته، وسيظل عطاؤه الأدبي المتميز معيناً لا ينضب تنهل منه الأجيال كافة الحاضرة والقادمة.