اعتدتُ بطبيعة عملي أن نسأل المستفيدين تقديم وصف لتجربة تعلمهم الذاتي، وخطر لي أن أفعل الشيء نفسه على اعتبار أن الحياة مدرسة وأدوّن ما اخترتُ أن أتعلمه هذا العام من الحياة وما تجاهلته أو غفلتُ عنه سأدونه عامًا آخر في درس مُعاد ألوم نفسي على تجاهله لاحقاً.
كنتُ سأستطرد بوصف هذا العام بالاستثنائي الذي لا يشبه آخر، وتذكرت العام الماضي وعند مقارنته بالحالي يُصبح استثنائياً إن اعتبرنا أن عودة الحياة لطبيعتها فِعل خارج الطبيعي!
كانت دروس العام المنصرم قاسية، أشبه برحى تطحن بين حجريها ثقتي، وجداني، أفكاري، وآمالي العظيمة في ذاتي، وتزيد قساوتها كل الأبواب التي دقتها يدي وخطوط الاتصال التي مدّها مسمعي على أمل أن يخرجني أحدهم إلى النور لكنني في كل المحاولات التعيسة أتلقى ذات العبارة «ما يحدث لنا هو انعكاس ما بداخلنا» وأُشهد الله في لياليْ الظلماء أن ما يحدث غريب على ما بداخلي ويناقضه، حتى جاء هذا العام وفاق كل طموحاتي البسيطة وقتها، حيث أنجبت الحياة معانيها المخبأة في بطنها عاماً، وأدركتُ لأول مرة وأكثر مرّة أنني أصغر من كل هذا، وأن كتفي أضعف من أن تتحمل التجارب.
أذكر في مرة وأنا في طريق عودتي إلى المنزل -بعد أن حضرتُ موقفاً لا أحب تذكره- كانت عيني تلتقط كل ما يشوّه المنظر فقط دون أن تلُقي اعتبارًا للمشهد بأكمله؛ أشعة الشمس الحارة رغم السماء الصافية، أوراق الخريف على الرصيف رغم نظافته، لوحات الدكاكين القديمة رغم وفرة الخيرات، ولا أنسى وقتها كيف طلبتُ الله ألا يعاملني وفقًا لسنّي، وحين أردتُ أن اختار عمرًا ليعاملني الله به، احترتُ أي سن قد تمنع عني هذا الأذى الذي شعرتُ به.
يخبرك الكبار عن رحلة النضوج عاماً بعد عام، يمجدّون أرقامًا معينة ويحملونها ما لا تُطق، ويستهينون بأرقام أخرى ويحطون من مقامها، لا أحد يخبرك بأنك لن تلحظ نضوج تفكيرك ولن تتحول إلى الحكيم سديد الرأي فجأة، ستبقى غضوباً تعيساً انفعالياً إن لم تعمل على ضبط كل هذا في أي عمر كنت، لا أحد يخبرك أنك كلما تقدمت سنًا كلما هشّ وجدانك ورقّت عضلات تحمّلك، لا أحد يخبرك أنك كلما كبرت استعصمت بالصمت لفرط ما تجترّ ذاكرتك من مواقف وتجارب ضجيجها أعلى من صيحة استغاثتك. كان لهذا العام عناوين ودروس أبرزها: ألا يتسرب العمر الحاضر بالانتظار، وأن الصحة أهم وأعز موجود، وأن أي فرصة تحول بين المرءِ وراحته اغتنامها ضياع. كنتُ قد تقبلتُ فكرة المعاناة كجزء من حياتنا وأن لكل منا نصيبه من الحزن، لكنني تعلمتُ هذا العام أن أتقبل معاناة من أحب كجزء من تجاربهم وألا أُحمّل نفسي ذنبًا ارتكبه آخرين، وأن ليست كل الطرق معبدة، المهم أن نستمر في المسير، وأخيرًا، الكون أكبر وأفسح من أن تكون المخلوقات فيه انعكاس ما بداخلنا، المهم أن نتأكد أننا نحمل نيات طيبة ونحافظ على ما تبقى لنا من نقاء داخلي.
وكل عام ونحن بخير، «خير» حقيقي أو كما قال الرافعي: «إن ضقتَ بالعُسرِ فلا تَبْتَئِس.. فربَّما دلَّ على ضِدَّهِ».
** **
- هيا الزومان