ليس من السهل العمل على ترسيخ قيم الوطنية في نفوس الأطفال، فتحقيق الوعي به يتطلب بذل مجهود كبير، وهو في الوقت نفسه ليس مستحيلاً، ومن الوسائل المساعدة على تحقيق ذلك توظيف ما يُسمى بـ»أدب الطفل»، الذي ترجع بداياته الحقيقية إلى فجر الزمان، أما بداية كتابة، وتسجيل أدب الطفل بالعالم العربي، فقد كانت نقطة انطلاقه القرن العشرين، والمثير أن أدب الأطفال بشكله الحالي قد تأخر في الظهور، ورغم كل ذلك فلا يمكن أن ننفي أهمية الجهود المبذولة اليوم من أجل تطويره بالشكل المطلوب، في البلدان العربية، وتدخل أعمال الصقر في هذا المضمار، فهي متخصصة في أدب وإعلام الطفل، وتعمل أيضا ناشرة، ومخرجة لكتب ومجلات الأطفال، ومنتجة لأفلام الرسوم المتحرك، وقد صدر لها 45 إصدار للطفل.
هنا يمكن أن نتحدث عن منزلة القصة المصحوبة بالرسوم في بناء الوعي بقيم الوطنية التي تشير في الغالب إلى الانتماء إلى أمة أو وطن. وهذا الانتماء الجماعي تحدده الهوية المشتركة، فيما يجمع الفرد مع غيره، من ممارسات الحياة اليومية، من عادات الأكل، واللباس، والموسيقى، وطقوس الأعياد، والحفلات، كما أنها تتجسد في الرموز المشتركة، لما يمثِّل الهوية الوطنية، أو الهويات الجماعية المتعايشة في ظل الوطن الواحد.
في هذا السياق، عملت الكاتبة، والقاصة السعودية مريم الصقر من خلال قصتها «عازفة الناي»، على بعث شعور داخلي لدى بطلة القصة « شيخة»، وأصدقائها في المدرسة، ومن دون شك فهذا الشعور مبني على الولاء للوطن، بمعنى خدمة الوطن، والعمل على تنميته، والرفع من شأنه، وحماية مقوماته الدينية، واللغوية، والثقافية والحضارية، والشعور بالمسؤولية من أجل تحقيق النفع العام، والالتزام باحترام حقوق، وحريات الآخرين، واحترام القوانين التي تنظم علاقات المواطنين فيما بينهم، والمساهمة في حماية البيئة، والانخراط في الدفاع عن القضايا الوطنية، والاستعداد من أجل حماية الوطن، وضمان وحدته الترابية.
فالمواطنة إذاً، مبدأ، ذو قيمة مهمة في تطور المجتمع الإنساني، وصيانة خصوصياته، ومصالحه العامة، ومن هنا يمكن أن نتساءل هنا: كيف استطاعت مريم الصقر ترسيخ قيم المواطنة في نفسية الطفل، من خلال قصتها «عازفة الناي»؟ وهل أسهمت اللغة والأسلوب في تحقيق ذلك؟
* * * * *
فـ«شيخة»، فتاة قروية، وتسكن مع جدها وجدتها، بعد وفاة أمها، وهي معروفة بعزف الناي الذي صنعته لها جدتها «علياء»، حتى بات الجميع ينادونها بعازفة الناي.
ومنذ بداية القصة، نلاحظ أن القاصة سعت إلى تقريب صورة المكان، أو الفضاء إلى الطفل – القارئ-، حيث بدأت بوصف القرية، ومظاهرها الخلابة الطبيعية والجغرافية، ويتعلق الأمر بالقرية الجنوبية في منطقة عسير، كما عملت بعد ذلك على تحديد منطلقات أولية، ووسائل لبلوغ هدف القصة - ترسيخ قيم الوطنية-، لذا ركزت على التراث، وبالتحديد على ما يسمى بفن «القط العسيري»، ويتجسد في أشكال هندسية رائعة وملونة، وقد اشتهرت جدة شيخة «علياء» بين سكان قريتها بهذا الفن.
حسب مريم الصقر فإن «القّط العسيري» هو « فن تراثي قديم جداً، أوجدته المرأة الجنوبية بفطرتها وذوقها وبساطتها»، وهو جزء لا يتجزأ من التراث، أما الحفاظ عليه، فلا يمكن أن يتم بالشكل المطلوب إلا عن طريق نقله للأجيال القادمة، وهذا ما حاولت توصيله إلينا، بطابعها الحكائي والسردي البارع، حيث قامت الجدة «علياء» برفقة «شيخة»، وبعض أطفال القرية برسم «القط العسيري» على جدران منزل جارتها صالحة، وقد أسفر ذلك عن حدوث فرحة لا تتصور لدى الأطفال، وهنا بادرت شيخة على طرح سؤال على جدتها، يؤكد كيفية نقل التراث من جيل إلى جيل، فقد سألتها قائلة: جدتي هل كنت تجيدين رسم القط وأنت صغيرة؟. ابتسمت الجدة، وقالت: نعم لقد كنت أساعد والدتي في الرسم، ولقد تعلمت منها هذا النقش حتى أصبح مصدر رزقي، أجني منه القليل من المال».
وبأسوبها السلس، وحواراتها المفيدة، وبلغة بسيطة، وعميقة استطاعت القاصة، أن تقف عند مفهوم التراث،- على لسان الجد-، لتؤكد علاقته بالمجتمع والوطن، فقد سألت البطلة شيخة جدها - عندما خرج الأطفال للحقل ومعهم الألوان، واستطاعوا إنجاز رسومات ذات الألوان المختلفة- : أَخْبرنِي يا جدي عن التراث؟، وقد جاء جوابه، ليؤكد في الوقت نفسه علاقته بالقط العسيري، قائلا: « التراث هو حياة وتاريخ الشعوب وما تركه لنا آباؤنا وأجدادنا، ومن كانوا قبلنا، من عادات وعلوم وفنون وحرف وأدوات، تميز بها الشعوب والحضارات، لو لم يهتم من رحلوا ونحن بالقّط العسيري لما بقي لكم لليوم، لذا علينا أن نحافظ على تراثنا وحضارتنا من الضياع».
* * * * *
إن بناء قصة «عازفة الناي» لا يخلو من التشويق، والانتقال من حدث إلى آخر، وغير بعيد عن قيمة التراث و»القّط العسيري» وعلاقتهما بالمدرسة والقيم الوطنية، فقد وجهت المعلمة دعوة للصغار، للاحتفال باليوم الوطني السعودي، والتعبير عن فرحتهم، وهذا ما جعلهم يرسمون لوحات جميلة مزينة بنقوش «القّط العسيري».
لكي تتخذ القصة منحى آخر مليء بالتشويق، فقد خالفت الطفلة «شيخة» أوامر معلمتها، بعدما وزعت هذه الأخيرة النقود على الصغار، ودعتهم لشراء العلم الوطني، وبدل الاستجابة لأوامرها اختارت «شيخة» وصديقتها «نهلة» شراء الشكولاتة، ورقائق البطاطا. فوقعتا في مشكلة تحتاج إلى حل.
فكان المطلوب حسب الأحداث، البحث عن الحل بعيدا عن الكذب، فقد كانت شيخة تريد أن تكذب، لولا تدخل العصفورة التي وجهت إليها هذا الكلام» ... إياك أن تكذبي...».
أجل، المأزق يتطلب من «شيخة» أن تفكر، لكن مصدر الحل كما رأينا في القصة، هو العصفورة التي دعتها إلى إهداء غطاءها الأخضر هدية للوطن.
فالقاصة مريم الصقر قامت بتوظيف الحيوان المتكلم في قصتها، وجعلته صديقاً للطفلة «شيخة»، وهذا أسلوب يهدف إلى نقل الحكمة، والمعاني الأخلاقية، مما يؤكد مدى قدرة الكاتبة على توظيف هذا الأسلوب الرائع.
اعترفت شيخة بخطئها، وأخبرت جدتها بكل ما حصل، لم تعارض الجدة طلب شيخة، بل ساندتها قائلة» وطننا يستحق التضحية ....»، كما دعتها إلى الاعتذار مع نهلة لمعلمتها. «ترسيخ قيمة الصدق».
أثناء عملية صناعة العلم الوطني، حيث نقشت «شيخة» على غطائها كلمة التوحيد، بينما طرزت الجدة الغطاء بالخيوط الملونة، دار حوار بينهما حول ماهية الوطن، وأثناء توصل «شيخة» للحقيقة نامت، لكن لم ينم شوق تساؤلاتها عن حب الوطن.
مما يؤكد مرة أخرى أن مريم الصقر لا تجعل القيم الوطنية تغيب في حوارات شخصيات قصتها «عازفة الناي». ف«شيخة» تحولت إلى رمز من رموز حب الوطن، ليس في الحلم فقط، وإنما في الواقع أيضا. وقد جاء على لسانها بعد شدة فرحها» ما أروعك يا وطني، لم أكن أشعر بمثل هذا الحب من قبل، أنا أحب وطني يا جدتي...»، لتؤكد الجدة لها بأن « الوطن هو كرامة الإنسان ... وعلينا أن نضحي بالغالي من أجله».
* * * * *
فحب الوطن دفع «شيخة» مع «نهلة» إلى حمل علم وطنها الأخضر، والاتجاه صوب المدرسة، وما يؤكد ذلك أكثر هو أن شيخة أهدت لوطنها أجمل ما عندها، وهو الغطاء الذي تحول إلى علم، وهو في أصله قطعة أثرية من تراث بلدها، وهي قديمة ونادرة، ورثتها أمها المتوفاة من أجدادها، وأوصت شيخة بأن تحافظ عليها، ولا تهديها إلا لمن يدرك قيمتها.
في نهاية هذه القصة، عمت الفرحة أهالي القرية بمناسبة اليوم الوطني، وقد دفع الشعور الوطني الطفلة «شيخة» إلى قيادة مسيرة، حافلة بالأهازيج الوطنية، وعزف أجمل مقطوعة للنشيد الوطني، وتم نصب أعلام الأطفال في أعلى قمة في الجبل، أما علم شيخة فظل معلماً شامخاً في قريتها.
المؤكد أن الكاتبة مريم الصقر من خلال قصتها « عازفة الناي» الموجهة للأطفال، ركزت على شخصية «شيخة»، ومواقفها، - قصة شخصية-، لكن هدفها هو ترسيخ القيم الوطنية في نهاية المطاف، من خلال تغذية الطفل وإمداده بالمفاهيم والمعلومات والحقائق – مفهوم الوطن، مفهوم التراث-. ومن دون شك، فتقنيات السرد لدى الصقر أسهمت بشكل واضح في ترتيب الأحداث وتفاعلها، وصناعة الخيال... وهذه من أبرز مقومات بناء معالم أدب الأطفال. والحق أن «عازفة الناي»، تحمل أبعاداً وطنية وهوياتية من المستحيل إغفالها في زمن هاته الحياة المليئة بالصراع بين المواقف والاتجاهات.
** **
- هشام أزكيض