يتفاوت إغراء الأعمال السردية، فهناك عمل إبداعي يغريك بجمال لغته، وآخر ببراعة صوره ومخيلته، وثالث بقوة وجدة فكرته،ورابع بما يعلو به سقف جرأته وشجاعته... فإن اجتمع أكثر من عنصر في العمل الواحد فهذا دال على قيمته، وبين يدي رواية جديدة في فكرتها، شجاعة في سيرتها؛ فهي (فعلاً) رواية مختلفة.
ولعل المطلع على رواية (فعلاً) للكاتبة أمل الحربي سيقف أمام العنوان متسائلاً عما يعنيه؛ فهل أريد به فعلاً كمصدر للفعل (فعل) الذي سيحيل إلى فاعل وفاعلية ومنها فاعلية المخ (التفكير)؟ أم فعلاً بمعنى حقيقة؟ أم فعلاً كإجابة لسؤال أو حديث سابق له؟ كل ما سبق محتمل لمن دلف إلى الرواية مصطحباً احتمالات العنوان، ولو بحث عن العنوان صريحاً في ثنايا الرواية فسيجده في موضعين بمعنيين مختلفين؛ الأول عندما تتحدث البطلة قائلة (كنت أراني ولا أعرفني، فعلاً كنت أجد صعوبة في كتابة نبذة عني) ص250، والثاني في حديث البطلة (منيرة) هامسة لذاتها (الإيمان إحساس وليس فعلاً، وإيماني بالبرنامج أوشك أن يبلى) ص339
أما عن الرواية فتتلخص في سيرة البطلة (منيرة) التي أدخلت إلى المصحة لعلاجها من حالتي الاكتئاب والإدمان، في مصر (القاهرة) وفي أمريكا -مع تعمد لعدم التصريح بمكانها الأصلي ومكان أسرتها في وطنها بغرض التعميم - وخلال فترة العلاج تخوض الرواية ببراعة في خبايا النفس الإنسانية كاشفة عن كثير من العلل والأمراض النفسية الناشئة من ممارسات ومفاهيم وقيم اجتماعية خاطئة - بحسب رأي البطلة - بالدرجة الأولى، تعاني البطلة من مرض ثنائي القطب وتقدم عدداً من الشخصيات التي تعاني اضطراب الشخصية وغيرها من علل قد لا يكون الإدمان سببها كما يعتقد؛ فالمدمن جدير بالشفقة وليس النبذ والعداء، وخلال تدرج الرواية تسير بك رغماً عنك لتبحث عن ذاتك وفي ذاتك، فأحد جوانب القوة للرواية أنها بمثابة برنامج تدريبي في تطوير الذات من خلال الحكي السلس والسرد المشوق، لذلك سوف تحيلك قراءة الرواية لكتاب لويز هاي (القوة في الداخل) وإلى كتاب إكهارت تول (القوة الآن) وغيرهما من كتب تطوير الذات، تقول لويز هاي (يحد الخوف أذهاننا فهو غضب متجسد بعملية دفاعية، يحميك وفي الوقت ذاته يسجنك، الخوف هو عكس الحب تماماً فكلما أحببنا أنفسنا ووثقنا بها زادت هذه الصفات في حياتنا) وتقول بطلة روايتنا (نهبني الخوف وتهت في غياهبه، أفكاري كرؤوس دبابيس تتأرجح وتجرح عقلي، تتناثر قشوره فتخنق أنفاسي) ص57، ومتى سرت مع الرواية وجدت حضوراً لافتاً لقضايا الذات والحديث عن القاع؛ فالنضج الحقيقي في الخروج من قاع الذات إلى سطح الحياة العريضة كما يذهب مطورو الذات، ولأن الرواية تطوير واعٍ للذات - كما ذكرت - نجد حضوراً لافتاً للقاع في الرواية: (القاع إنه ذلك العمق الذي لن تصله إلا وأنت غارق في وحلك) (سألتها صفاء: منيرة كلمينا عن قاعك؟ فتجيبها: ما عندي قاع، بماذا أخبرها أن قاعي هو جهل بوجوده) وكذلك قولها في موضع آخر (إن قاعي سحيقة فسيحة تصلح للسكنى) والقاع لا يمكنك الوصول له إلا بعد تجاوز الإنكار، والإنكار واحدة من أهم المفاهيم التي تناقشها الرواية وتبرز خطورتها كتيمة لافتة (لِم لم تأخذ هذه الكلمة حقها من سوء السمعة؟ لماذا لم نسمع بها منذ صغرنا؟ لماذا لم يحذرنا أحد منها؟ لم يسبق لي أن سمعت أنها تنتمي إلى المسلّمات الخبيثة، تلك المتعارف عليها كالسرقة،الكذب، العقوق..) ثم تتوالى مواقف معززة لخطورة الإنكار، تصارحها فرح: (الإنكار مسيطر عليك...) وتتحدث عن تمسكها بذا الكبرياء الزائف الذي يحول بينها وبين العلاج (لم أتذمر فكبريائي كان أكبر، أقسمت أن لا أري انهزامي لأي كان، وهذا في حد ذاته كان انتصاراً لي).
ثم تتحدث عن بدء الرضوخ للعلاج بعدما صارحها الدكتور بقوة (أصاب إنكاري شروخ غير قابلة للالتئام، انسلخت من كينونتي، ورأيت عالمي القبيح) وكانت في موضع آخر تحاول الهروب والإنكار قائلة (أثار ضوضاء حول خليتي الوحيدة الناجية التي أختبئ بها عن كل الجنون الذي حولي.. سأختبئ في مكان لا يعلمه حتى أنا) وأخيراً تصل البطلة إلى لحظة الاعتراف الصريح (وهنا كتبت أول سر لطبيبي: أنا ثنائية القطب الوجداني). والرواية في جميع مراحلها تعيد الوقوف مع الذات، الغوص في عوالم الداخل، التعرف على الأنا (في كل منا منطقتان خطيرتان، إما دونية مدقعة أو انفرادية مستعظمة، وهما من أخطر المناطق المعتمة لتوالد الأمراض الروحية وتكاثرها) أما عن بناء الرواية ومعمارها؛ فقد قامت على مخزون قرائي وافر في مجالات الذات، وربما على مشاهدة وملاحظة ما يجري من ممارسات علاجية في بعض المصحات، كما اتسمت بلغتها السلسة والعبارات ذات الحمولات الفكرية العميقة (أنا العلامة المميزة للنفور، وهي زائدة الحبور) ومنها (مثلي يفضل زحام الوحدة على فراغ البشر) (حاولت الارتفاع بالنزول) (إن الزي الموحد من أقسى أنواع الاستعباد، ذلك أنه يحولك إلى أداة بلا ذات) (كلما عاندت أفكاري أو كبحت نزواتي تفوقت عضلة الإرادة لدي). كما اتسمت بعناوينها الداخلية اللافتة في صياغتها ودلالاتها (في الاعتقال يكون الانعتاق) (قرص دواء يغنيك عن فرص لقاء) (كل ما كنت تعرفه لاحقاً أصبح سابقاً) (الكلام الأبكم) (أخطات وتعمدت ألا أنبهني) (من يسقط في القاع تلتصق به بعض كنوز الأرض رغما عنه) (لا تنس اسمي حرب أمل).
ومن جماليات الرواية اتسامها بالمفاجآت الروائية، لعل أبرزها الاكتشاف المتأخر بأن (عبير) شخصية صنعها التوهم المرضي لمنيرة ولا وجود لها في الواقع؛ وعند اكتشافك لهذه المفاجأة تعود إلى المواطن التي حضرت فيها عبير، فتجد حرفية الصياغة ودقتها دونما إخلال. كما استخدمت الخط اليدوي عبر رسالتين خطيتين بقلم منيرة وعبير، وللخطوط دلالاتها!!، واتسمت كذلك بتحول الخطاب في نهاية صادمة للقارئ، (... حتى أنت عزيزي القارئ وليس جميعكم أعزائي... يعميكم غروركم عن رؤية الجهد الهائل الذي ينبع من شخص لا يفعل شيئاً البتة) لتعلن بعدها نهاية مفتوحة للرواية (سأضع القلم الآن لا رغبة لي في أن أكمل الكتابة، قد ولدت ناقصة ولو اكتملت لمت، على الأقل أنا أمثل نفسي بكل عيوبي يا بسطاء..وداعاً) وفي الجملة الأخيرة تأكيد على ما سعت إليه طوال فصول الرواية من معرفة الذات التي تمثل صاحبها بعيداً عن المجموع، ولعل آخر ما وظفته الرواية ملحق كشف - إن جاز التعبير (مواقف مجهولة حاضرة التفاصيل) لتكون كالملحق التوضيحي لبعض خبايا متن الرواية وجزءاً من بنائها في آن!! وقبل أن أضع القلم أقول لكم اقرؤوا الرواية فستغنيكم عن عشرة برامج تدريبية، وقفوا عند تلك القوة الهائلة في الداخل، تلك التي تنهض بصاحبها بعد السقوط أقوى مما كان، وهو ما لا يتحقق إلا بتجاوز الإنكار وكسر (الإيغو) والتسامح مع الذات.. إلى هنا؛ وسأضع القلم الآن كما وضعته روائيتنا أمل الحربي في روايتها الماتعة (فعلاً) فعلاً فعلاً!!
** **
- د. سعد بن سعيد الرفاعي