غيَّرت وسائل التواصل الاجتماعي؛ بما لها من مرونة وإمكانية تجاوز القيود، الكثيرَ من الشروط والخصائص والمفاهيم في نواحي حياتنا على نحوٍ لم نَعُدْ نعرفها عليه كما كانت من قبل. ومن بين ما طالَه تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، إن لم يكن بالتغيير فأقلها بالتحريض على التساؤل، مفهوم المكان وشروطه وخصائصه، هذا الفضاء المجرَّد الذي نشغله باستمرار، ويَكتسب الشكلَ من خلال الكلمات التي نُطلقها عليه وتصوّرنا الذاتي عنه، كالمنزل والغرفة والقاعة والمسرح والمدرسة، وغيرها.
لم يعد للمكان شكل، عندما يتم تنظيم -على سبيل المثال لا الحصر- أمسية شعرية (عن بُعد) عبر برنامج (الزوم)، أو غيره من البرامج العديدة، ويظهر الشعراء أمامنا من أماكن مختلفة يبعد الواحد عن الآخر مئات الكيلومترات، وكذلك هي المسافة بينهم وجميع الموجودين من الجمهور، ثم يتفاعلون بعضهم مع بعض؛ الشعراء والجمهور، إضافة إلى المنظمين، كما لو أنهم في مكان واحد وقاعة واحدة، بينما في الحقيقة هم جميعًا إما في منازلهم، أو غرف نومهم، أو مكاتبهم الخاصة، أو إنهم في أماكن مختلفة أخرى، ليس من بينها مكان إقامة الأمسية المفقود بالمعنى التقليدي للمكان؛ إذ إن المعنى الافتراضي هنا قد فرض خصائصه وشروطه، التي تخطتْ بجميع المشاركين في الأمسية الحدودَ، ومنحتهم مكانًا واحدًا رغم وجود كل واحد منهم بالوقت عينه في مكان مختلف عن الآخر، وبالتالي قلَّصت المسافات وقرَّبتهم من بعضٍ لكن (عن بُعْد)!
إلى جانب ذلك، فإن من بين ما يُشكِل أيضًا، في ظل دور وسائل التواصل الاجتماعي، هو مفهوم الحضور الذي صار معناه يختلف ويلتبس في بعض الأمسيات أوالندوات أو المؤتمرات أو غيرها، خاصة تلك التي لا تُقام (عن بُعد) تمامًا، وإنما تُقام على مسرح حقيقي، وفيه يكون جميع الحضور من متحدثين وجمهور متقابلين بطريقة مباشرة -ليس عن بُعد-، لكن مع وجود استثناء بسيط؛ حيث يكون أحد المتحدثين؛ ولسبب ما، يشارك عبر شاشة كبيرة يظهر من خلالها أمام الجميع على المسرح، متوجهًا إلى الحضور وكأنه بينهم لا في مكان آخر! وبالرغم من أن حضوره مجرد محاكاة، إلا أن الجميع يعترف به، ويُصنّف حاضرًا في الإعلام، وفي جدول البرنامج، كذلك في كل إجراء تنظيميٍّ، بغض النظر عن المسافة التي تفصله عن المسرح.
على أن يقترن دائمًا هذا الحضور الملتبس عبر الشاشات بالقول (عن بُعد)، وهي العبارة السحرية التي ما ننفكّ نستخدمها لاستيعاب هذا النوع التقريبي من الحضور، بالإضافة إلى أننا نستخدمها توسُّعًا؛ لتمييع معنى الحضورالذي كان في السابق لا يحتمل في معناه التجسيدي سوى الإيجاب أو النفي، تلك الثنائية التي قد تجاوزها الآن، وبات حضور أحدهم في المسرح عبر التقنية من مكان آخر غير المسرح، مسألةً معترف بها وغير قطعية في آنٍ واحدٍ؛ هذا عدا ما لها من معنى أثِيريّ بشروطه التي ربما يلخّصها هذا التباين في قولنا: حاضرٌ (عن بُعْد).
إن استخدام عبارة (عن بُعْد)، أصبح -علاوة على ما ذُكِرَ- يُعبّر عن مساحة افتراضية تتكون من إشارات ورموز، لا شكل لها ولا معنى، لكن باستطاعتها -بمساعدة الأجهزة- عمل الكثير مما كان يُعدُّ في الماضي سحرًا، ومزامنة الحضور لدرجة الإرباك، فضلاً عن التحول إلى نوعٍ افتراضيٍّ من التّماس ما بين الأمكنة المتباعدة، ووضع أحدهم بطريقة ما في لحظة الآخر الآنيَّة بشروطٍ مختلفة، فقط لمجرد التواصل البصري عبر وسيط تقنيّ، في عملية صحيح أنها سهلة الإجراء، إلا أنها في الحقيقة قد عصفت بالكثير مما سبقها، وأفرزت ثقافات جديدة، وما تزال تؤثر بعمقٍ في مجالات عدة.
** **
- أحمد الجميد