عودًا إلى استجلاء حضور القرية في المشهد الروائي العربي بنظرة مغايرة؛ تفنيداً لمقولة لوكاتش = «الرواية ابنة المدينة»، وعدم صلاحيتها في كل حال.
فهل نبالغ إذا قرّرنا ابتداءً حين القول إنّ الرواية العربية انطلقت من القرية أو الرّيف مع أوّل تجربة يصحّ أنْ تُسمّى فنية وأعني بها (زينب) لهيكل؛ بل يمكننا إذا أردنا المبالغة بالقول إنّ حضور القرية في المشهد القصصي العربي بدأ منذ عام 1881م مع قصص عبد الله النديم كمحاولة «لتصوير الفلاحين المنهكين»(1)، و»رواية (الفتى الريفي) لمحمد خيرت الصادرة سنة 1905م»(2).
تلك إذن بدايات؛ ثمّ يأتي توفيق الحكيم بـ (يوميات نائب في الأرياف- 1937)، حينما قدم الكثير من الصّور النّابضة عن حياة الفلاحين، وما يعتورهم من تخلّف وظلم؛ فضلاً عن حاجاتهم الملحّة إلى التّعليم (3)، وهذا طه حسين في (المعذبون في الأرض-1939)، إذ «نلتقي لوحات قصصية تذكرنا على الفور بلوحات الحكيم في يوميات نائب في الأرياف، لكن لوحات طه حسين تقنعنا بدعوته إلى العدل يعكس الحكيم الذي كان يحلم فقط بتعديل القانون المستورد»(4)، وفي رواية (الأرض-1950) يعلن عبد الرحمن الشرقاوي حب الفلاح لأرضه ودفاعه عنها، حيث انتقل بالأرض إلى مرحلة عميقة ومهمّة في تأريخ الكتابة عن الريف والأرض والفلاح(5)، ويذهب الروائي الطّاهر وطار بقوله: «لقد عبر الأدب الجزائري قصة ورواية عن الحرب التحريرية أحسن تعبير في عالم واحد هو عالم الريف، حتى لكأن الريف وحده هو الذي خاض الثورة، ولأن المدينة ظلت طوال تلكم الفترة نائمة لا تحيي سلباً ولا إيجاباً، وقد ظل هذا نقطة ضعف أدبنا» (6).
ثمّ تترا الروايات حول القرية فكانت (ضجة في القرية) لشفيق الفقيه، و(من البادية إلى القرية) لعمر عناني، و(اعترافات سيّد القرية) لمحمد جبريل، و(أيام القرية) لماجد ذيب، و(شقراء الريف)، لعبد العزيز بن عبد الله، و(فتاة الريف) لعبد الله حلمي إبراهيم.
وعطفاً على تلك الأمثلة المبتسرة استطاع الكاتب العربي- ربّما أكثر من آداب أخرى كثيرة- أن يتّخذ الريف بيئة تتجاوز المألوف من نظرة رومانسيّة إلى واقعيّة، إلى رؤية فلسفيّة (7).
ومِن الإنصاف وتحري الموضوعيّة أن نشير إلى بعض الروايات التي تتداعى فيها مقولة لوكاتش، كرواية (أبواب المدينة) لإلياس خوري، و(أحداث مدينة على الشاطئ) لمحمد حسن الحربي، و(الأرواح تسكن المدينة) لأنور الخطيب، و(اغتيال مدينة صامتة) لحمدي البطران، و(شاب من المدينة) لعبد الله عيسى؛ بل نجد روايات حملت أسماء مدن بعينها، كرواية (القاهرة الجديدة) لنجيب محفوظ، و(صنعاء مدينة مفتوحة) لمحمد عبد الولي، و(القاهرة 51) لأمين الريّان، و(من مكة إلى هنا) للصادق رجب النيهوم؛ وغيرها ممّا لا يحصيه القول ولا يستوعبه المكان.
أمّا إذا أزحنا السّتار، ونقلنا البصر صوب المشهد المحلي = السعودي، فأوّل ما يطالعنا كتاب (رجع البصر) حيث يمضي صاحبه النَّاقد الدكتور حسن النعمي في حديث مغاير لما قاله به لوكاتش، وهو يستنطق بعض سمات التّجربة الروائية المحلية فيما أسماه «روائيون برسم القرية»(8)، طارحًا عدّة تساؤلات تستبصر تلك المقولة، هكذا: هل مقولة الرواية ابنة المدينة لجورج لوكاتش تنطبق على الرواية المحلية من حيث المفهوم ومن حيث الإنتاج؟ وهل ثقافة المكان شرط في إنتاج الرواية؟
لم تكن تلك الأسئلة المطروح لتتبدّى ظاهرة لو لم يكن هناك اشتغال فكري وهم سردي يحمله النعمي، مع تفهمه لمفهوم المدينة، وبخط فاصل يتضح به الاسم والمعنى، إلاَّ أن الإجابة واضحة لا لبس فيها، حيث تسقط مقولة لوكاتش من حسبان المتابع الجيّد للمشهد الرّوائي المحلي على أقلّ تقدير، فهناك مفارقة أسماها صاحب (رجع البصر) بالصّارخة، يلحظها من يتأمّل المشهد الروائي المحلي، وهي أنّ جلّ من يكتب الرواية المحلية هم ابتداءً من أبناء القرية، الذين يعيشون بوجدان القرية في المدينة. إنَّهم سدنة لقراهم؛ بل روائيون برسم القرية، ورسم القرية يعكس مدى هشاشة تلك المقولة التي احتفل بها بعض النقاد قبل أن يحتفي بها جورج لوكاتش (9).
أمّا تفسير ذلك -حسب النعمي- فالأمر له علاقة بمفهوم المدينة لدينا، فأغلب مدننا مدن تريّفت، وبهذا أصبحت المدينة مدينة في شكلها الخارجي، ولكنها ظلت مسكونة بالقرية في كل مناحيها، مع ملاحظة استثنائه لبعض المدن كمكة وجدة بحكم تنوعها السكاني والثقافي بسبب وجود الحرمين ووجود ثقافة التجارة والبحر من حولها، فإننا لا نكاد نجد شكلا للمدينة بمعناها الثقافي والاجتماعي، وليس المادي في بقية مناطق المملكة، وعليه فإننا لا نستغرب أن يكون معظم من يكتب الرواية لدينا من أمثال إبراهيم الناصر، وعبدالعزيز مشري، وأحمد الدويحي، وعبده خال، وإبراهيم شحبي، وعبدالحفيظ الشمري، ونورة الغامدي، وغيرهم يكتبون عن القرية أكثر مما يكتبون عن عالم المدينة الذي يعيشون فيه (10).
وتأكيدًا لذلك؛ «فمعظم رواياتهم تعبر عن القرية أو عن صراع القرية مع المدينة سواء على مستوى القيم أو على مستوى التحولات الاجتماعية، حيث يكون الانتصار غالباً لثقافة القرية على حساب المدينة، فهم يعيشون في المدن ويدينونها. ولعل المتأمل في روايات عبدالعزيز مشري على وجه الخصوص يلحظ بوضوح نستالجيا أو حنيناً مفرطاً لعالم القرية المثالي الذي يصارع من أجل البقاء، إما خوفاً من طوفان التمدن كما في رواية الوسمية أو ريح الكادي، أو عدم القدرة على التعايش عند إبراهيم الناصر في رعشة الظل، أو لدى إبراهيم شحبي في أنثى تشطر القبيلة، أو عودة للجذور عند أحمد أبو دهمان في الحزام، السيرة/ الرواية، الذي عندما فكر أن يكتب لم يكتب عن باريس، المدينة التي يعيش فيها، بل كتب عن قرية من قرى بني شهر»(11).
ومع ذلك؛ لا يمكن إلغاء مقولة لوكاتش من خارطة الصواب؛ ولكنها لا تستقيم حال عرضها على الأفهام، واستقصاء المسرود في عالم الرواية كما هو الحال في تلك الأسطر السّابقة، ولا أظن النعمي إلا من أنصار الموضوعية في ضوء الدليل واستحضار النماذج، هنا يأتي السؤال من فم النعمي: «هل المدينة غائبة عن كتابات الروائيين؟» (12). وتأتي الإجابة:» تقتضي الموضوعية أن نشير مرة أخرى إلى أن روح المدينة كما نلاحظها في مكة مثلاً قد أفرزت كتابات روائية نستطيع أن نلامس فيها إلى حد ما مقولة لوكاتش الذي يعتبر أن الرواية ابنة المدينة كرواية الحفائر تتنفس، لعبدالله التعزي، وتجربة محمود تراوري في ميمونة، وروايات رجاء عالم سواء خاتم أو سيدي وحدانة (13).
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) حسن محسب، قضية الفلاح في القصة المصرية، (المكتبة الثقافية: القاهرة، 1971م)، ص:5.
(2) محمد كامل الخطيب، نظرية الرواية، (منشورات وزارة الثقافة: دمشق، 1990م)، ص:19.
(3) انظر: قضية الفلاح في القصة المصرية، مرجع سابق، ص:61.
(4) انظر: المرجع السابق، ص:74.
(5) عبد الرحمان الشرقاوي، الأرض، ط3، (دار الكتاب العربي: القاهرة، 1968م)، ص: 317.
(6) عثمان عبد الفتاح، الرواية العربية الجزائرية، (الهيئة العربية العامة للكتاب: القاهرة، 1993م)، ص:86.
(7) انظر: د. محمد حسن عبدالله، الريف في الرواية العربية، عالم المعرفة، ع143، نوفمبر، 1989م، ص:7.
(8) انظر: د. حسن النعمي، رجع البصر، «قراءات في الرواية السعودية»، (النادي الأدبي الثقافي بجدة، جدة، 2004م)، ص:18.
(9) انظر: المرجع السابق، ص: 19.
(10) المرجع السابق، ص:20.
(11) المرجع السابق، ص:20- 21.
(12) المرجع السابق، ص: 21.
(13) المرجع السابق، ذات الصفحة.
** **
- د. ساري بن محمد الزهراني