ويتألف كتاب (الجمهرة في أيام العرب) الذي حققه الدكتور أحمد عطية من ثلاثة أقسام، حوى القسم الأول منه قتلَ الحارث بن عباد للفضيل بن عمران وما تلا ذلك من أحداث، وخلافَ البراق بن روحان مع أخواله، واختطافَ ابنة عمه وإهداءَها لملك الفرس واستنقاذ البراق لها. أما القسم الثاني فيحكي مسير بكر بن وائل وتغلب بن وائل وما جرى بينهم وبين التبع بن شراحبيل والنمر بن عثمان. فيما يتناول الجزء الثالث حرب البسوس وأيامها المشهورة. ويتساءل المحقق: «فهل الأجزاء الثلاثة هذه هي أجزاء لكتاب واحد؟ أم أنها أجزاء متفرقة جمعها أحد النساخ ووضعها جنبا إلى جنب في هذا الكتاب، خصوصا أن الرواة قد اختلفوا بين الأجزاء الثلاثة».
ويحق له أن يتساءل بعد أن وجد إحدى المخطوطتين قد ألحق بهما جزء من جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي. لكن هذه المشكلة تهون أمام مشكلة رواة الكتاب. فالجزء الأول من الكتاب، ومفتتح الجزء الثاني يروي أحداثها وأشعارها راوٍ مجهول اسمه (ابن نافع)، يصرح في بعض المواضع أن اسمه (ذؤيب بن نافع الحنفي) ومع ذلك لا يفيدنا هذا التعريف شيئا، لأن هذا الراوي لم يترجم له أحد في كتب التراجم المعروفة. وقد شك المحقق - نفسه - في حقيقة ابن نافع، فقال: «فهل لهذا الراوية وجود؟ وهل له علاقة بعمر بن شبة؟ أم أن هناك عددا من الرواة الآخرين روى عنهم ابن شبة تحت اسم ابن نافع؟».
ومما يزيد من الشك في الأخبار الواردة في الجزء الأول من هذا الكتاب - فضلا عن عدم وجود رواة ثقات - أنها لم ترد في مصادر أخرى من كتب التراجم أو السير.
وقد لجأ المحقق الكريم إلى وسيلة عجيبة للتحقق من (ابن نافع)؛ الراوي الرئيس للقسمين الأولين من كتاب الجمهرة لابن شبة، ولإثبات نسبة كتاب الجمهرة لابن شبة، وهي تتبع رواة كتاب آخر له، هو (تاريخ المدينة المنورة) حققه فهمي محمود شلتوت، إذ وجده في كتاب تاريخ المدينة يروي عن خمسة كلهم (ابن نافع) وهم: طلحة بن نافع، وعبد الله بن نافع الزبيدي، والحكم بن نافع، والوازع بن نافع العقيلي، وزياد بن نافع. ويضيف لهم سادسا هو نافع مولى عبد الله بن عمر. إذ يقول: «فليس أمامنا الآن إلا كتاب تاريخ المدينة؛ والمعلوم صحة نسبته لابن شبة، لنقارن بينه من حيث الرواية وسلسلة الرواية وبين المتن الذي معنا - متن الجمهرة - لنثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الأخير من جملة مؤلفاته»!.
ويضيف شارحا وجهة نظره: «فعندما يذكر في كتاب الجمهرة أنه يروي عن ابن نافع فهو يقصد أحد هؤلاء، ولا مجال للتشكيك من أن الراوي في كتاب الجمهرة غير معروف، بل على العكس فهو راوية الرجل في المتاح لنا من كتبه، وأمر الرواية هذا وإثبات صحته هو من الأمور التي تقربنا من اليقين بأن كتاب الجمهرة هو لابن شبة بلا منازع، لأن اتفاق الراوي في الكتابين يدل على أن الراوي واحد»!.
وغاب عن محققنا الكريم أن حجته هذه توهن الثقة في الجمهرة ولا تقويها، لأن رواة كتاب تاريخ المدينة معروفون بأسمائهم، وليسوا شخصا واحدا كما في الجمهرة، ثم إن ابن شبة هنا «يورد الأخبار على طريقة المحدثين ومنهجهم، فيذكر سنده كاملا إلى أن يصل إلى شاهد الحادثة أو سامعها أو ناقلها»، وهو منهج مغاير تماماً للمنهج الذي اتبعه مؤلف كتاب الجمهرة، مما يجعل الشك يداخلنا في أن الكتابين لمؤلف واحد.
والقسم الثاني من كتاب الجمهرة روى الخبر الأول منه المجهول ابن نافع (خمس صفحات)، ثم أضرب عن ذكر اسم راو معلوم، فعمد تارة إلى البناء للمجهول (قيل)، وتارة (قال صاحب الحديث) ثم يعطف عليه بقوله: (وقال).
أما القسم الثالث من الكتاب وهو ما يتناول حرب البسوس، فكان مفتتح الخبر من رواية محمد بن إسحاق (ت 151)؛ أقدم المؤرخين العرب ومؤلف السيرة النبوية، وما تلا ذلك من أخبار فمن رواية هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204).
(وللحديث صلة)
** **
- سعد عبد الله الغريبي