يَعرف الراسخون في العلم أنّ الأنساب أحد فنون الأدب الثمانية، وهي: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم.
وزعم بعض أصحاب الأهواء ممن يخوضون في الأنساب في زماننا أنّهم أقرب إلى الأنساب وفهمها من أهل اللغة والأدب، وزعمهم هذا مبنيّ على أوهام وعُقَد نفسية وجهل بتراث اللغويين والأدباء في الأنساب وتاريخ القبائل، وما كان هذا الفن الذي برع فيه العرب إلا جزءًا أصيلاً من تراث اللغويين والأدباء، ولهم فيه مؤلفات عديدة، ومن أجل هذا خلط ياقوت الحموي (ت 526هـ) اللغويين والأدباء والنسابة في معجم الأدباء، الذي سمّاه (إرشاد الأريب)، ولم يترجم للمُحدّثين والمفسّرين والفقهاء والأطباء ونحوهم، إلا من كان له حبل متّصل بالآداب واللغة، وترجم لهم قبل ياقوت أبو البركات الأنباري (577هـ) في نزهة الألباء في طبقات الأدباء، وله كلمة نفيسة في هذا الشأن، إذ نصّ على أن الأنساب أحد علوم الأدب الثمانية، ومن أجل ذلك ترجم لهشام الكلبي (ت 204هـ) في كتابه ذاك، وقال: «وأما هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فإنه كان عالمًا بالنسب، وهو أحد علوم الأدب؛ فلهذا ذكرناه في جملة الأدباء، فإن علوم الأدب ثمانية: النحو، واللغة، والتصريف، والعروض، والقوافي، وصنعة الشعر، وأخبار العرب، وأنسابهم؛ وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما؛ وهما علم الجدل في النحو، وعلم أصول النحو» (نزهة الألباء 75، 76 ت السامرائي).
فالأدباء واللغويون في الجملة هم أقرب أهل العلوم إلى الأنساب؛ لأنها من علومهم الثمانية، ومع هذا فإني لا أنكر على غير أهل اللغة والأدب أن يكتبوا في الأنساب ويجتهدوا قدر طاقتهم، وحتى العامة قد يأخذون بنصيبهم من هذا الفن، وكان بعضهم من رواة المصادر القديمة، ولكنّ اللغويين والأدباء هم الأقدر على الاشتغال بهذا الفنّ والغوص فيه حين يكون من اهتماماتهم، تعينهم اللغة وهي آلة العلوم وعليها مدار الفنون النظرية. قال الشافعي: «أصحاب العربية جِنّ الإنس يبصرون ما لا يبصر غيرهم». (آداب الشافعي ومناقبه 150).
وأردتُ بهذا المقال الكشف عن صلة اللغويين والأدباء بالأنساب منذ بدء التأليف في العربية، ورَصْد شيء من تراثهم في هذا الفن، وفي ذلك دليل صريح على صحّة ما ذهب إليه علماؤنا في تصنيف الفنون والعلوم، وقد كشفتْ لنا المصادر القديمة كطبقات اللغويين والنحويين والأدباء وكذلك المصادر التي تُعنى برصد المصنفات والعلوم كالفهرست للنديم (ولا تقل ابن النديم) وكشف الظنون للحاجّ خليفة (ولا تقل حاجي خليفة) وإيضاح المكنون لإسماعيل البغدادي -الكثيرَ من تراث اللغويين والأدباء في التأليف والأنساب، وأظهرتْ صلتهم الوثيقة بهذا الفن.. وإليكم طائفة منهم في هذه العجالة:
* فمن اللغويين المتقدّمين: عبدالرحمن بن هرمز المدني الأعرج (117هـ) عالم المدينة، قال الذهبي: «كان عبدالرحمن بن هرمز أوّل من وضع العربية، وكان أعلم الناس بأنساب قريش».(سير أعلام النبلاء 23/ 215).
* ومنهم الفُرْقُبي وقيل القُرْقُبي، واسمه زهير بن ميمون ( 155هـ) كان نحويًّا قارئًا، وقد سُئل ذات مرّةً: أنّى لكم النحو؟ فقال سمعناه من أصحاب أبي الأسود، وعنه أخذناه. وكان زهيرٌ هذا عالما بالأنساب والأخبار وأيام الناس، وذكره بكر أبو زيد في طبقات النسابين.
* ومنهم حمّاد الراوية (156هـ) قال ياقوت: «قال المدائني: كان من أعلم الناس بأيّام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها» (معجم الأدباء 3/ 1202). وقد ترجم له أبو البركات الأنباري في طبقات الأدباء واللغويين، وجعله من طبقة هارون بن موسى النحوي وعيسى بن عمرو النحوي وحماد بن سلمة النحوي والأخفش الأكبر والشرقيّ بن القطامي الأديب.
* ومنهم مؤرّج السدوسي (195هـ) النحوي الأخباري، من أعيان أصحاب الخليل عالم بالعربية والحديث والأنساب، قال أبو بكر الزبيدي: «كان عالمًا بالعربية، إمامًا في النحويين» (طبقات النحويين واللغويين 75) وقال عنه ياقوت: «هو من أعيان أصحاب الخليل، عالم بالعربية والحديث والأنساب» (معجم الأدباء 6/ 2731) واختصر نسب قريش في مجلد لطيف.
* وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ) اللغوي الشهير صاحب الغريب المصنف وغريب الحديث وغريب القرآن، والأمثال، وأنساب الخيل، وشواهد القرآن، والمذكر والمؤنث والمقصور والممدود، وله كتاب في النحو، وله كتاب النسب، كان عمده أهل زمانه، وهو تهذيب لكتابي النسب الكبير وجمهرة النسب لهشام الكلبي، طُبِع بتحقيق مريم محمد خير الدرع.
* ومنهم محمد بن حبيب البغدادي (ت 245هـ): قال النديم في الفهرست: «كان من علماء بغداد بالأنساب والأخبار واللغة والشعر والقبائل، وعمل قطعة من أشعار العرب، روى عن ابن الأعرابي وقطرب وأبي عبيدة وأبي اليقظان وغيرهم وكان مؤدبًا وكتبه صحيحة» قلت: ومن أشهر كتبه في الأنساب (مختلف القبائل ومؤتلفها) قال عنه حمد الجاسر: إنه أوّل كتاب وصل إلينا في موضوعه، وهو معالجة داء تصحيف الأسماء (ينظر: مختلف القبائل ومؤتلفها 285) وله أنساب الشعراء، ذكره الحاج خليفة في كشف الظنون.
* وأبو سعيد السُّكّري (275هـ) واسمه الحسن بن الحسين العَتَكي، وهو من مشاهير الأدباء واللغويين، له شرح ديوان الهذليين ظهرت فيه براعته باللغة. أقول: وقد وَجَّهتُ بعض طلابي لاستخراج المادة المعجمية في هذا الشرح النفيس، وسُجّلتْ فيه رسالتان في مرحلة الدكتوراه، وللسّكّري كتاب أنساب بني عبد المطلب كتاب كبير، وروى بعض كتب الأنساب كالمحبّر لابن حبيب، وروى رسالة عرام في أسماء جبال تهامة وسكانها وما فيها من القرى.
* ومحمد بن يزيد الثمالي الأزدي، المعروف بالمبرد (286 هـ) إمام العربية والأدب في زمانه، من أشهر كتبه المقتضب من كتاب سيبويه، والكامل في اللغة والأدب، والمذكر والمؤنث، والتعازي والمراثي، والاشتقاق، والتصريف، والرد على سيبويه، وله في الأنساب: كتاب نسب عدنان وقحطان، نشره عبدالعزيز الميمني عام 1936هـ.
* ومحمد بن الحسن الأزدي المعروف بابن دريد (321هـ) وهو عربي صليبة من الأزد، قال عنه السمعاني: «كان رأس أهل العلم والمقدّم في حفظ اللغة والأنساب وأشعار العرب» (الأنساب 2/ 230) وقال ابن الجزري: «وكان من أعلم أهل زمانه باللغة والشعر وأيام العرب وأنسابها مع الكرم والمروءة وصدق اللهجة» (غاية النهاية 2/ 116) له الاشتقاق في أسماء القبائل وأنسابها، وهو كتاب مشهور.
* ومنهم الداروني (343هـ) وهو أبو محمد حسين بن محمد التميمي العنبري، ويعرف بابن أخت العاهة، كان إمامًا في اللغة والعلم بالشعر، قُرئ عليه وسُمِع منه في حياة أبي محمد المكفوف النحوي، وكان مشغوفًا بديوان ذي الرُّمّة، وهو من أعلم الناس به وبغيره من دواوين الشعر، إلى معرفته بأخبار العرب وأنسابها وأيّامها، كما يقول أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين ص245.
* ومحمد بن أبان اللخمي (354هـ) قال عنه ابن الفَرَضي: «كان عالما بالعربية واللغة، حافظًا للأخبار والأنساب والأيام والمشاهد والتواريخ» (تاريخ علماء الأندلس 2/ 733).
* وأبو الفرج الأصبهاني (356هـ) الأديب المشهور صاحب كتاب الأغاني، وَصَفه ياقوت بقوله: «العلامة النسّاب الأخباري» (معجم الأدباء 4/ 1707) ووصفه الذهبي بأنه كان بصيرًا بالأنساب وأيام العرب. له مقاتل الطالبيين، والتعديل والإنصاف في أخبار القبائل وأنسابها، وكتاب نسب المهالبة وكتاب نسب بني عبد شمس وكتاب نسب بني كلاب، وغير ذلك.
* وأبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي ( 368هـ) قرأ كتاب النسب لأبي عبيد القاسم بن سلام على أبي محمد عبيد الله بن عبدالرحمن السُّكّري سنة 361هـ وهو يرويه عن السُّكّري.
* ومنهم الأديب الحسين بن علي بالعروف بابن الوزير المغربي المتوفى سنة (8 41هـ) صنّف في اللغة والأدب والأنساب، ومن أبرز مصنفاته: المنخّل في اللغة، وهو اختصار إصلاح المنطق لابن السّكيت، وله أدب الخواص، وهو كتاب حافل، يدلّ على سعة اطلاعه، كما يقول الشيخ حمد الجاسر، وله الإناس في علم الأنساب، وقد حقّقه الشيخ الجاسر مع كتاب ابن حبيب مختلف القبائل ومؤتلفها، وأشار إلى أنّه قد يكون أحسن مؤلّفات ابن الوزير حظًّا ورواجًا، وأثنى عليه ابن خلكان وأشار إلى أنّه مع صغر حجمه كثير الفائدة.
* ويوسف بن سليمان الأنصاري المعروف بالرباحي (448هـ) قال عنه ابن بشكوال: كان «عروضيا شاعرًا نسّابة» (الصلة 520) وقال مثله الصفدي والذهبي.
* وابن حزم الظاهري (456هـ) الأديب الفقيه اللغوي النسابة المتفنّن، صاحب طوق الحمامة، قال ياقوت: «ولأبي محمد ابن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة، وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة»، وذكر الزركلي أن له كتابًا في الإعراب. ومن أشهر كتبه: جمهرة أنساب العرب.
* وابن عبد البّرّ اللغوي المفسّر، يوسف بن عبد الله الحافظ، القرطبي المتوفى: سنة (463هـ) برع في اللغة والأدب، ونثر في تفسيره كثيرًا من فنون اللغة والتصريف والنحو، وله كتاب في الأنساب، سمّاه: القصد والأمم إلى أنساب العرب والعجم.
* وابن الأجدابي اللغوي (470هـ) إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله اللواتي الأجدابي، وصفه القفطي بأنه: من أهل اللغة، وأنه ممن تصدّر فى بلده، واشتهر بالعلم، وصنّف فى اللغة مقدّمة لطيفة، سماها كفاية المتحفّط يشتغل بها الناس فى الغرب ومصر، قال البغدادي في هدية العارفين: من تصانيفه اختصار كتاب نسب قُرَيش لأبي عبد الله بن الزبير مع زَوائد وإلحاقات تشْتَمل على فَوائد. (هدية العارفين 1/ 10).
* وهشام بن أحمد الكناني الطُّليطلي المعروف بالوقَّشي (489هـ) قال عنه ياقوت: «كان من أعلم الناس بالعربية واللغة والشعر والخطابة والحديث والفقه والأحكام والكلام، وكان أديبًا كاتبًا شاعرًا متوسّعًا في ضروب المعارف متحققاً بالمنطق والهندسة، ولا يفضله عالم بالأنساب والأخبار والسير» (معجم الأدباء 6/ 2778).
* ومحمد بن أحمد التّجيبي المعروف بابن الحاج (529هـ) قال ابن بَشْكُوَال: «وكان معتنيًا بالحديث والآثار، جامعًا لها، مقيدًا لما أشكل من معانيها، ضابطًا لأسماء رجالها ورواتها، ذاكرًا للغريب والأنساب واللغة والإعراب، وعالما بمعاني الأشعار والسير والأخبار، قيد العلم عمره كله، وعني به عناية كاملة ما أعلم أحدًا في وقته عني به كعنايته، قرأت عليه وسمعت» (الصلة 453).
* والقاضي عِياض اليحصبي (544هـ) قال عنه ابن خَلِّكان: «كان إمام وقته في الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم» (وفيات الأعيان 3/ 483)
* ومحمّد يعقوب الفيروزي ويسمّونه الفيروزبادي (817هـ) صاحب القاموس المحيط، له كتاب تحفة الأبيه فيمن نسب إلى غير أبيه.
* وجلال الدين عبدالرحمن السّيوطي أديب لغوي متفنّن (911هـ) له لبّ اللباب في تحرير الأنساب.
* ومن المعاصرين الأديب الشّاعر عبدالله بن خميس (1432هـ) عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، له معجم اليمامة في عدة مجلدات، خصص المجلد الرابع منه لأنساب بعض أسر اليمامة.
* هذه جملة صالحة من أهل اللغة والأدب ممن كان لهم اشتغال بالأنساب، ولم أُحْصِهم كلهم، وحين أتحدّث عن نفسي في هذا الشأن -وأنا من أهل اللغة والأدب- فإنني لا أُخفي عنايتي بالأنساب ومصادرها، ولي في الأنساب والتاريخ كتابات مبكّرة، قبل 30 سنة، أيّام العَلَمين الكبيرين حمد الجاسر وعاتق البلادي، وقد أسعدني الحظّ أن أخذتُ عنهما طرفًا من علمهما بالمجالسة والمراسلة فضلا عن العناية بكتبهما، وكتبت مقالاتٍ وأبحاثًا في هذين الفنين في أوقات متفرقة، ونشرت في مجلة العرب بحثًا عن قبيلة حرب وعلاقتها بطريق الحج، وكتبت مقالًا عن القبائل الثمودية والقبائل الصفوية القديمة، ومقالًا عن أخبار مكّة للفاكهي، وسلسلة مقالات عمّا ألف في تاريخ المدينة، ثم طبع في كتاب، ومقالًا في افتراءات فيليب حِتّي وبروكلمان على التاريخ الإسلامي، ومقالًا عن بئر حاء في المدينة، وغيرها من المقالات، ولي كتاب حافل في نسب آل خليفة من التراجمة من الصواعد من عوف من حرب، وكتاب آخر أكبر منه لم ينشر بعد. ولم تكن كتاباتي في هذا الفنّ حميّةً جاهليّة لقبيلةٍ أو تفاخرًا بنسب أو حسب، وإنما أكتبُ للعلم وللإسهام في تاريخ بلادنا الغالية، فالقبيلة جزءٌ من وطن كبير عظيم يظلّنا جميعًا وننعم بخيراته، والناس فيه سواء، لا يتفاضلون إلا بالتقوى وبأعمالهم النافعة، وقدوتنا في هذا نبينا، صلّى الله عليه وسلّم، الذي قال يوم الفتح: أمّا بعد؛ أيّها الناس! فإنّ الله قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهليّة، يا أيّها الناس! إنّما الناس رجلان: بَرٌّ تقيٌّ كريم على ربِّه، وفاجر شقيّ هيّنٌ على ربِّه، ثمّ تلا: {يا أيُّها النّاسُ إنّا خلقناكم من ذكرٍ وأُنثَى وجعلناكم شُعُوبًا وقبائلَ لتعارَفُوا} حتّى قرأَ الآية، ثمّ قال: أقول قولي هذا، وأَستغفرُ الله لي ولكم (صحيح ابن حبّان ح 3828، 9/ 137. وينظر: موارد الضمآن ح 1703 ، 5/ 346، وصحّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، ورقمه: 2803).
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي