«الجزيرة الثقافية» - جابر محمد مدخلي:
إن انتباهنا للأثر الكبير في مسيرة وطننا ومصيره يعدّ جزءًا أساسيًا في مساندته وإضافات مهمّة ومفيدة وداعمة له منذ لحظات الانتباه وأثنائها وبعدها. ويمكننا القول إنّ الوطن اليوم في حاجة إلى مراكز ثقافية نوعية وتخصصية تتقدم بالأجيال لسنوات قادمة قبل مجيء هذه السنوات بكثير.. وذلك بنوعية ما تقدمه هذه المراكز الثقافية المتخصصة في مجالات الإبداع، والإبداع الثقافي والعمل على توظيفه وتطويره وتصديره.
ولكي نتعرف على هذا الجزء المهم في مسيرة وطننا كانت لنا هذه الزيارة لمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» بمدينة الظهران. وكان فيهم الروائي والأكاديمي الدكتور أشرف فقيه الذي كنتُ قد تعرفتُ عليه سابقًا من خلال مؤلفاته وكتبه.
يشغل الدكتور أشرف اليوم منصب مدير قسم البرامج في مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء».
في هذا الحوار كشف للثقافية أموراً غاية في الأهمية لمسيرة مركز إثراء الثقافي والطموحات المستقبلية، فإلى نص الحوار:
* دائمًا أقول: إنه يتوجب على الإنسان أن يتمرّن على فهم وإدراك ما هو في حاجة إليه من الإثراء والتطوير.. فهل ترون اليوم أنّ جيلنا الحاليّ قادر على هذا التمرين، وتحديدًا من خلال موقعكم في مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء»؟
- من أبرز التحديات التي يتعرض لها الجيل الحالي هي وفرة وتعدد مصادر المعرفة وهذه الوفرة تصل إلى حد التشتت، إضافة إلى تقلُّص مساحة التجربة المباشرة مع تغلغل التقنية. ما يقوم به مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء)؛ هو توفير منصة حيّة جامعة توفر البيئة والأسماء والمسارات الأكثر مواءمة، لتمكين قادة التغيير في المستقبل سواء كانوا هواة أو محترفين، مع الربط بين هاتين الفئتين بما يفيدهما معًا وينعكس على تطويرهما.
ما يقدمه (إثراء) هو توفير تجارب نوعية ومتجددة تصب في مصلحة جميع المستفيدين عبر المسارات التي تشملها مبادرات وبرامج المركز وهي « المعرفة والثقافة والفن والإبداع والمجتمع».
* «إثراء» كلمة واحدة قام عليها أحد المراكز الثقافية المهمة في تاريخ المملكة وأحد أبرز وأهم مائة مبنى في العالم، فهل ترونها اليوم وقد صارت واقعًا ثقافيًا مجرد كلمة، أم فعل حِراكي؟!
- سأدع الأرقام تتكلم بالنيابة عني؛ بحلول عام افتتاحه الأول في 2019 استقبل (إثراء) مليون زائر وحظي باعتراف عالمي غير مسبوق كما تفضلت. وحتى في 2020 خلال جائحة كورونا كوفيد - 19 وفي الوقت الذي توقفت المناشط الثقافية في العالم عن العطاء، ، والتزم أغلب الناس المنازل، كان المركز حاضراً وبقوة لتقديم منتج ثقافي إبداعي عن بُعد يصل إلى كافة الناس من جميع الشرائح العمرية، فعمد المركز إلى مضاعفة برامجه العامّة، حيث تفاعل مع برامجنا أكثر من 30 ألف شخص من 75 بلداً حول العالم، كما حظينا بأكثر من مليون زائر افتراضي وأكثر من 19 ألف مشارك في برامجنا، وشهدنا 404 ألف مشاركة في مواقع التواصل الاجتماعي ووصلنا إلى أكثر من 20 مليون مشاهدة لبرامجنا ومحتوانا الافتراضي.
لنصل إلى محصلة نهائية وهي أن (إثراء) نجح في استقطاب حوالي مليون و900 ألف زائر حتى الآن، وهذا الرقم له دلالة خاصة ولا سيما أنه متعلق بزوّار مركز ثقافي وليس متعلقاً على سبيل المثال بفعالية ترفيهية أو شعبية، ثانيًا (إثراء) على مدى سبع سنوات وقبل افتتاح المبنى للجمهور قدّم مسابقة «اقرأ» والتي تأثر بها بشكل مباشر ما يقارب من 100 ألف طالب وطالبة في المملكة والوطن العربي، وإذا تحدثنا عن إنتاجنا السينمائي فنحن أكبر منتج سينمائي في المملكة العربية السعودية من خلال إنتاج 20 فيلمًا سعوديًا، ضمن برنامج دعم صناعة المحتوى الثقافي والإبداعي الذي يقدمه المركز، كما حازت أفلامنا على أكثر من 15 جائزة محلية وإقليمية وعالمية.
كما أعرج هنا على استحواذ شبكة «نتفليكس» بعرض 5 أفلام سعودية من جملة الأفلام التي أنتجها (إثراء). علاوة على أننا شريك مؤسس في مهرجان أفلام السعودية مع جمعية الثقافة والفنون بالدمام، الذي يسعى للنهوض بقطاع السينما السعودية، أما عن مجال الفنون فلابد هنا أن أشير إلى (جائزة إثراء للفنون) التي يقدّمها متحف إثراء والتي قد أحدثت حراكًا نوعيًا في المشهد الفني في المملكة، وتتواصل للعام الرابع لتفسح المجال لكل الفنانين العرب بالشراكة مع بينالي الدرعية.
أما في مجال الإبداع والابتكار، فلابد من الإشارة إلى موسمنا الإبداعي «تنوين» الذي نُظم خلال أربعة مواسم متتالية، وحضره ما يزيد على 100 ألف من المختصين في هذا المجال النوعي والفريد.
* «إثراء» مرةً أخرى.. أرامكو شركة عالمية عملاقة لديها من الالتزامات والملفات المهمّة والمؤثرة، ومع هذا نرى أحد أهم منتجاتها الثقافية والحضارية المتمثل بمركز «إثراء» فمن أين؟ وكيف بدأت هذه البذرة؟ على الرغم من أنّ معظم الناس يظنون أنّ النفط هو العمل الوحيد لأرامكو؟
- خلال ما يقرب من 90 عامًا، لمسّت أرامكو كل جوانب الحياة في المجتمع السعودي بما يتجاوز استخراج النفط، فمنتجات أرامكو مشاهدة في جميع أنحاء خريطة السعودية، وعلى هذا السياق فإن بذرة تأسيس (إثراء) كانت نتاج فكرة انبثقت تزامنًا مع احتفاء أرامكو بالذكرى الـ 75 لتأسيسها، والذي أُريد له بأن يكون مكتبة عامة مميزة، إلا أن أرامكو وكعادتها دائما ما تقلّب الأفكار وتنميها قبل إطلاقها بشكل مختلف؛ وبناء عليه تطورت الفكرة، لتتجسد على هيئة مكتبة ومسرح وسينما ومتحف فنون ومتحف أطفال ومختبر أفكار ومعرض للطاقة كلها تحت مسمى مركز (إثراء)، حصلنا على مركز متكامل هو عبارة عن ستة مراكز في مركز واحد، وأعتقد أن هذه واحدة من أعظم الهدايا التي قدمتها أرامكو في ذكرى تأسيسها ليس للمجتمع السعودي فحسب، وإنما للبشرية ككل، ومن هنا فإن اسم المركز (الملك عبد العزيز الثقافي العالمي) له دلالات واضحة في كل جزء من مسماه.
* ما الذي بذلتموه كفريق ثقافي إبداعي لتوظيف التقنية الثقافية وجعلها بذات الأهمية والجذب حتى بدت لنا اليوم في «إثراء» بمنطقة متساوية مع أهمية الكتاب والمصادر الأخرى؟
- نفخر بأن لدينا مبادرات توّظف التقنية الثقافية وتجعلها في متناول الجميع، مثال على ذلك (الحلول الإبداعية) وهو برنامج ابتكار سنوي يتخذ كل عام سِمة محددة في مجالات مختلفة للمحترفين في مختلف المجالات: الفن، العلوم، التقنية وغيرها، لإيجاد حلول للفرص والتحديات، كما يتبع المشاركون ممارسات مختبر الأفكار مثل، (التفكير في التصميم والمشاركة في الابتكار والابتكار المفتوح)، حيث يتم توجيه المشاركين لتطوير الفكرة وتحويلها إلى نموذج قابل للتسويق من قبل خبراء ومستشارين ومرشدين ومدربين في مجالات الإبداع والابتكار.
فيما تمتلك مكتبة إثراء باقة متنوعة من المصادر الرقمية بالعربية والإنجليزية، منها كتب مسموعة وكتب رقمية، ويتم التحديث والإضافة إليها بشكل مستمر، كما تحتوي المكتبة واحدة من أفضل المساحات العملية المجهزة بالحواسيب للاستخدام العام في المنطقة الشرقية.
* منصة «إثراء» العالمية هل يمكننا اعتبارها قابلة لتصدير واستيراد الثقافة والإبداع السعودي، أم هي عبارة عن بوابة لإيصال واستقبال الصوت الثقافي الإبداعي الداخلي والخارجي؟
- منذ البداية كان (إثراء) عبارة عن بوابة مشرعة لمختلف مظاهر الثقافة والفن في المملكة حتى قبل الافتتاح قدّم المركز مبادرات مشرقة للثقافة السعودية، حيث نجح (إثراء) في أن يكون سفيرًا للثقافة السعودية من خلال برنامج (جسور) الذي انطلق في عام 2016م، وهدف إلى تقديم المواهب المحلية في محافل عالمية وتعزيز الجوانب الثقافية والاجتماعية، وإظهار الصورة المشرقة للوطن، وذلك ضمن جهود المملكة في ترسيخ علاقاتها ومكانتها الاستراتيجية عالميا، حيث تتضمّن المبادرة 4 أقسام (المعارض الفنيّة السعودية، جسور الحوار، أيام الفيلم السعودي، الجولات الكوميدية). طافت المبادرة عبر 100 مدينة حول العالم في أمريكا وكوريا الجنوبية، وشهدت مشاركة أكثر من 500 ألف شخص، إلى جانب ذلك (حاضنة إثراء) وهو برنامج تعليمي مستدام قدّمه المركز في منطقتي القصيم وحائل لمدة ثلاثة فصول دراسية، لتدريب المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات في مجالات العلوم والرياضيات والهندسة والتقنية وبناء المهارات الشخصية، واستهدف أكثر من 12,000 ألف طالب وطالبة في المرحلة العمرية من (13 - 18 سنة)، بالإضافة إلى 2000 معلم ومعلمة، من خلال 280,000 ألف ساعة تعليمية.
أما (إثراء العلوم) فهو برنامج تعليمي يستهدف أكثر من 21 ألف طالب وطالبة، ويهدف إلى إشعال فتيل الفضول العلمي وتطبيق الأساليب العلمية من خلال التجارب التي يقوم بها الطلاب، علاوة على توفير برامج تعليمية متخصصة في تقديم هذا النوع من التدريب لتنمية مهارات الطلبة العلمية، ويستهدف 3500 طالب وطالبة من المرحلة العمرية (13 - 16 سنة) عبر زيارة 35 مدرسة.
ويتسنى لنا هنا الوقوف على (مبادرة الحد الجنوبي)، التي قُدّمت عبرها سلسلة متكاملة من البرامج العلمية والإثرائية التي صُممت بعناية لتنمية المعرفة لدى الطلاب والطالبات على امتداد سنتين، بواقع أربعة برامج ثلاثة منها تعليمية، من هذه البرامج (أتألق) وهو برنامج تعليمي يستهدف 6000 طالب وطالبة من خلال زيارة 60 مدرسة للبنين والبنات في (شرورة، نجران، سراة عبيدة، ظهران الجنوب، جازان، صبيا) وتقديم 90 ألف ساعة تعليمية، حيث يقوم على هذه التجارب العلمية الملهمة فريق من المدربين السعوديين الذين تدربوا على محتوى البرنامج من أعرق المراكز العالمية المختصة بالتعليم بأسلوب حديث وشيق. وأما (إثراء لاب) وهو معرض متنقل في منطقتي نجران وجازان، استهدف إثراء وإلهام 15 ألف مستفيد من خلال تجارب علمية تفاعلية في مجالات العلوم، والرياضيات، والهندسة، والتقنية. (أُلهم) وهي فعالية جماهيرية أقيمت في منطقتي جازان ونجران، مفعمة بعروض تفاعلية ملهمة في قالب شبابي تعزز مبادئ الإبداع، والإصرار، والنجاح، والمواطنة لدى شباب وشابات الوطن، استهدفت الفعالية 1000 شاب وشابة لإثراء فكرهم وتنمية حسهم الإبداعي. علاوة على ذلك (حاضنة «أكتشف» المعرفية) وهو برنامج تعليمي مستدام في نجران وجازان لتدريب المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات في مجالات: العلوم والرياضيات والهندسة والتقنية واللغة الإنجليزية وبناء المهارات الشخصية، حيث استهدفت الحاضنة المعرفية 6,000 طالب وطالبة و3000 معلم ومعلمة من خلال 380,000 ساعة تعليمية.
* أكاديمية «إثراء» هل يمكننا التفاؤل ولو على المدى البعيد بأن تصبح لدينا فروع أخرى لها؛ بغية تحفيز الميول الإبداعي في البيئات: الأسرية، والاجتماعية، والثقافية في بلدنا المترامي الأطراف؟
- تسعى أكاديمية «إثراء» لتقديم تجربة تعلم فريدة من نوعها عبر التركيز على مسارات محددة نقدم من خلالها أبرز الممارسات العالمية، وذلك بالتعاون مع خبراء وشركاء محليين وعالميين؛ لينتج عن هذه التجربة التطبيقية الثرية مهارات صُقِلت بعناية أو منتجات إبداعية طُوِّرت باحترافية. وتأتي أكاديمية «إثراء» تحقيقًا للهدف الاستراتيجي لمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) في تطوير المواهب والمهارات في القطاعات الإبداعية والثقافية؛ لإتاحة الفرصة للمشاركين لاكتشاف قدراتهم الإبداعية وتنميتها من خلال سلسلة من البرامج التدريبية المتخصصة ضمن 6 مسارات، وهي: القيادة الإبداعية، الفن والتصميم والأفلام والفنون الأدائية والأدب والموسيقى والعلوم التقنية.
في المجمل كانت برامج (إثراء) سبّاقة للوصول إلى مختلف مناطق المملكة قبل افتتاح المركز للجمهور في 2018م ، حيث زرنا الجوف ونجران وجازان وأبها وقرى المدينة المنورة وقمنا بتقديم برامج نوعية مختلفة، ومع توفر التقنية والاتصال فإن برامج (إثراء) باتت قابلة للتداول بشكل أكبر، حيث نسعى لأن نشرك الكل في برامجنا داخل المملكة وخارجها، لكن يظل (إثراء) بمبناه الأيقوني بمثابة الرحم الذي تتمخض عنه كل برامجنا ومبادراتنا، وقد كان برنامج (إثراء التواصل) على سبيل المثال دليلًا واضحًا على قدرتنا للوصول إلى باقي العالم إبان جائحة كوفيد - 19.
* برأيكم أين يقف اليوم «مركز إثراء الثقافي» وأين تودون رؤيته بمستقبل الغد، وهل هناك خطط مُطمِئنة وضعتموها من أجل ذلك؟
- أثبت (إثراء) نفسه كلاعب أساسي على المستوى الإقليمي وحظيت برامجنا بتقدير وزارة الثقافة وغيرها من الهيئات الدولية. ما نطمح له دومًا هو أن نتغلب على إنجازاتنا سنوياً ونستقطب المزيد من الزوّار والمشاركين ونُلهم شريحة أوسع من المبدعين، ما نطمح له هو أن يكون (إثراء) مقصدًا لكل من يفكر في زيارة السعودية، وأن يترك (إثراء) بصمة على كل فنان ومفكر ومبدع ومثقف يتقاطع دربه معه، ونطمح خلال السنوات العشر المقبلة إلى استقطاب 10 ملايين باحث عن المعرفة وأن يصبح المركز ضمن قائمة الـ 100 لأفضل مركز ثقافي على مستوى العالم، إلى جانب تقديم الدعم لما لا يقل عن 1000 موهبة عالمية.