فدوى بنت سعد البواردي
أتذكر خلال سنوات دراستي الجامعية، إني درست مادة تُسمى «علم الإنسان أو الأنثروبولوجي» لعدة شهور، وكانت تلك المادة من أمتع وأغرب المواد، وهي تنبع من مفهوم ثقافات الدول أو الجماعات أو القبائل، وكيف تم تشكيلها منذ القدم، وكيف أنه من الضروري تفهم وتقبل كافة الثقافات واحترامها والتعايش معها، مهما كانت غرابتها.
ومن هنا، يستكشف علماء الأنثروبولوجيا كيف يعيش الناس في أماكن مختلفة، مثل المدن أو القرى أو حتى الأدغال، وكيف يفهم هؤلاء الناس العالم من حولهم.
ويُنظر إلى الأنثروبولوجيا أحياناً على أنها دراسة للعادات والمعتقدات الغريبة للشعوب أو القبائل الأخرى، ولكن أحد الأهداف الرئيسية للأنثروبولوجيا هو «جعل المألوف غريبا»، حيث اعتاد الأشخاص المولودون في أي مجتمع على رؤية طريقتهم في فعل الأشياء على أنها طبيعية أو الأفضل، بينما قد لا تُرى بنفس الطريقة عند أشخاص آخرين. وقد قامت الكثير من الدراسات عن بعض القبائل الإفريقية التي تعيش حياة بدائية وتتواكب معها في حياتها اليومية بدون وسائل حديثة للتنقل او التعلم، وقد يجد الغريب عن تلك الثقافات أنها قد تكون حياة لا تُحتمل. ومن هنا، يأتي دور علم الإنسان ليوضح لهؤلاء أن حياة القبائل هي بالفعل حياة طبيعية رغم أنها لا تتماشى مع المعروف أو المعتاد للكثيرين، ويصبح «المألوف غريباً» لأن المألوف من وسائل العصر الحديث أصبح غريبا عند العيش مع تلك القبائل، ويجب احترام وتقبل تلك الحياة المختلفة.
كما تمنح دراسة الأنثروبولوجيا نظرة ثاقبة لما يجعل الناس يتفاعلون مع الأحداث حولهم، وتُبرز أهمية الثقافة في تحفيز العمل الاجتماعي والتطوعي والسياسي وغيرها من المجالات.
ويظهر أهمية دور هذا العلم في أن شركات كبرى مثل قوقل Google وإنتل Intel، على سبيل المثال، تستعين بعلماء الأنثروبولوجيا لفهم كيفية تفاعل الناس مع التكنولوجيا. كما تُستخدم الأساليب الأنثروبولوجية بشكل متزايد في قطاع الصحة لإعادة تصميم تجربة المريض.
وتعتمد الأنثروبولوجيا على دراسة المجتمعات الفعلية على مدى إطار زمني ممتد من خلال ما يسمى بـ»ملاحظة المشاركين». ولذلك، غالباً ما يجد علماء الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية أن أفضل طريقة للتعرف على الشعوب والثقافات المتنوعة هي قضاء الوقت في العيش بينهم لشهور وأحيانا لسنوات. وخلال تلك الفترة، يحاولون فهم وجهات النظر والممارسات والتنظيم الاجتماعي للمجموعات الأخرى التي قد تكون قيمها وطرق حياتها مختلفة تماماً عن قيم هؤلاء العلماء وطرق حياتهم. ومن ثم، يمكن للمعرفة التي يكتسبونها أن تثري فهم الإنسان على مستوى أوسع.
ودراسة الثقافات ليست كل شيء. وعلى سبيل المثال، قد يعمل علماء الأنثروبولوجيا في المجتمعات المحلية للمساعدة في حل المشكلات المتعلقة بالصحة أو التعليم أو البيئة. قد يعملون أيضًا في المتاحف أو المتنزهات الوطنية أو الحكومية للمساعدة في تفسير أحداث التاريخ. وقد يعملون لصالح الحكومات المحلية أو الحكومية أو الفيدرالية أو المنظمات غير الهادفة للربح، وقد يعملون أيضا في الشركات، مثل متاجر البيع بالتجزئة أو شركات البرمجيات والتكنولوجيا، وذلك لمعرفة المزيد حول كيفية استخدام الناس للمنتجات أو التكنولوجيا في حياتهم اليومية، مثل ما تم ذكره مسبقاً. وقد أظهرت وظائف علماء الأنثروبولوجيا التطبيقية نمواً قوياً في بعض الدول، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، في الماضي القريب مع توفر المزيد والمزيد من الفرص مع نمو الطلب على مهاراتهم القيمة لدراسة وتحليل الثقافات المختلفة للإنسان، حول العالم.
وعلى الرغم من الدراسات الأنثروبولوجية تتم الآن في كل مكان، وتشمل ضواحي الطبقات الفقيرة والوسطى والغنية، وتشمل القرى والمدن وحتى غرف الاجتماعات، وتمتد من افريقيا إلى آسيا والشرق الأوسط وأوروبا واستراليا والأمريكتين، فإن ما تشترك فيه كافة تلك الدراسات هو الوعي بالتنوع البشري والتشابه في البعض، في كوكب يتعدي عدد سكانه 7 بلايين نسمة.
** **
- خبيرة تقنية وتحليل استراتيجي