د. عبدالحق عزوزي
تشير التحليلات الدولية الجادة أن دولة الصين استطاعت فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» تسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا اللتين يسعيان إلى تصدير النموذج الغربي زاعمة أنه لا يمكن تحقيق أي نجاح دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي بل وأيضًا نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فالصين، مادام أن أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل، وتمؤسس لقاعدة مفادها بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية»صديق-عدو» وإنما في إطار «رابح-رابح» win-win.
وقد جاءت في دراسة نشرتها مؤخرًا مجلة «فورين بوليسي» حول التنافس بين الولايات المتحدة والصين للهيمنة على العالم أن سياسة بكين القائمة على العلاقات الاقتصادية مع الدول، لها قدرة على الاستمرار لمدة أطول من سياسات واشنطن المبنية على التحالفات العسكرية.
والذي يظهر لي أن التحالفات العسكرية والعلاقات الاقتصادية هما عاملان لمعادلة توازنية واحدة بالنسبة للدول العظمى، وستصبحان أهم محددات الفترة المقبلة التي ستطبع العلاقات في النظام العالمي الجديد. قارن معي: الصفقات التي أبرمتها روسيا مع الهند منذ أسابيع خلت تهدد جوهر إستراتيجية الولايات المتحدة في مواجهة توسع روسيا والصين في الشرق الأوسط وما وراءه؛ فموسكو ونيودلهي أبرمتا حزمة من الاتفاقيات الدفاعية والاقتصادية، ومن ضمنها صفقة تقوم بموجبها شركة «روس نفط» الروسية بتوريد نحو 15 مليون برميل من النفط الخام إلى الهند في سنة 2022؛ والهند ستشكل الحصة الأكبر من نمو الطلب على الطاقة على مدى العقدين المقبلين؛ كما أن زيارة الرئيس الروسي إلى الهند تتعارض مع توقعات الولايات المتحدة حول مدى نجاح إستراتيجيتها المضادة للصين وروسيا.
المهم من هذا المثال هو أنه لا يمكن لأمريكا ولا للصين ولا لروسيا من التموقع والريادة في النظام العالمي دون تحالفات عسكرية واقتصادية في الوقت نفسه خلافًا لما جاء في تقرير المجلة الأمريكية سالف الذكر.
ومنذ سنوات، تقوم الصين بإنشاء طرق حرير جديدة؛ وقد بدأت مغامرة أول طريق للحرير مع ماركو بولو قبل نحو 1000 عام؛ وبمرور السنين، أصبح هذا البرنامج الاستثماري الضخم في البنية التحتية بمثابة السياسة الكبرى للدولة... وقد نجح الرئيس الصيني في إقناع العديد من دول العالم على النسخة الحديثة لهذا الممر الاقتصادي والتجاري. ويقوم العملاق الصيني بتغيير الخريطة الاقتصادية العالمية على جميع الأصعدة، من الحوكمة العالمية إلى القواعد التجارية مرورا باحترام البيئة وعمليات الاستثمار، من خلال توظيفه استثمارات كثيفة في جميع أنحاء العالم...
ويتكون مشروع بكين الطموح من قسم بري، ويتمثل في إنشاء وتمويل سكك حديدية بين الصين وأوروبا، وقسم بحري، يتمثل في استثمارات في عشرات الموانئ عبر العالم لتيسير التجارة الصينية.
ففي القارة الإفريقية مثلاً، لا تبني الصين طرقًا فقط ولكنها تُكون صداقات وتحالفات عسكرية، وتعتمد هناك على الاستثمار في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري... وتشير دراسة أجرتها «وكالة ماكنزي الأمريكية» أن أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حاليًا في أفريقيا كما أن بعض المصادر تتحدث عن 2500 شركة، 90 بالمائة منها شركات خاصة. كما لا يخفى على المتتبعين الإستراتيجيين التواجد العسكري في إفريقيا؛ فقد سبق وأن أرسلت الصين بارجتين بحريتين إلى القرن الأفريقي وبالتحديد إلى جيبوتي حيث تملك قاعدة عسكرية ولوجيستية هناك.... فما يزيد عن 400 عسكري أضحوا يتواجدون في هذه القاعدة لتأمين طرق الملاحة في القرن الأفريقي على مستوى خليج عدن والقرن الأفريقي.
آخر الكلام:
إن دولة الصين استطاعت فهم العولمة والارتماء في قواعدها بذكاء ونجاح؛ وهي تقول لأي دولة تتعامل معها أن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق-عدو» وإنما في إطار «رابح-رابح» win-win؛ هذا هو سر نجاح الصين اليوم وبدأت تطعم هذا النجاح بتحالفات عسكرية لم يكن الإستراتيجيون الأمريكيون يتخيلونها يومًا من الأيام، وهو ما يعقد سياسة الاحتواء الأمريكي للتمدد الصيني في العالم.