د. محمد بن إبراهيم الملحم
أسلفت الحديث عن أهمية زرع مبادئ التعلّم مدى الحياة لدى الطالب طفلاً كان أو كبيراً، سواء كان ذلك من خلال تنشئة الشغف للتعلّم الذاتي أو من خلال توفير مصادره ووسائله وتقديم التوجيه والتشجيع المستمر من الوالدين على وجه الخصوص، وأؤكد اليوم أن مؤسسات التعليم الرسمي (ومنها مدارس التعليم العام) ليست سوى وسائل من وسائل التعلّم مدى الحياة الكثيرة، ومتى كان المتعلّم «حريصاً» على اكتساب المعرفة لأجل حياته فهو ينتقي من هذه المعلومات الكثيرة التي يحشو بها التعليم الرسمي رأسه ما يثبته ويراجعه ويجعله مرتكزاً في وعيه على الدوام ليعيد توظيفه مرة بعد مرة في حياته، جدول الضرب كأبسط مثال، وقصائد الزهد والحكمة لأبي العتاهية كمثال آخر أكثر تقدماً، ثم مبدأ مركز الثقل لتوازن الأجسام فيزيائياً كمثال متقدِّم جداً، حيث يستخدم في معرفة الطريقة الأمثل لحمل شيء ثقيل دون أن يعرض الإنسان عضلات ظهره لخطر التمزّق وآلامه المبرحة، وهكذا كما نلاحظ فإن التعلّم مدى الحياة هو مسؤولية الطالب في المقام الأول وهو من يوظف محتوى المدرسة أو المؤسسة التعليمية كالجامعات والمعاهد والكليات لخدمة هدفه السامي للتعلّم المستمر وتكوين أساسه المعرفي لحياة أفضل، أما من يتعامل مع ذلك المحتوى باعتباره غرضاً مادياً مؤقتاً فقط وغايته «الشهادة» التي توصله للوظيفة والراتب فهو لا يحمل قيمة التعلّم مدى الحياة في هذا الإطار ويفَوِّت على نفسه فرصة عظيمة لاغتنام ساعات وأيام حياته التي تذهب هدراً للانتظار 35 دقيقة كل حصة و6 حصص في اليوم و5 أيام في الأسبوع لمدة 12 -16 سنة مشغولاً بانتظار هذه الورقة دون أي تحصيل معرفي ذي قيمة حقيقية ومباشرة لحياته اليومية.
ولهذا السبب وجب على المؤسسات التعليمية أن تولي عنايتها هذا الجانب من خلال تقديم مفاهيم وأدوات ووسائل التعلّم الذاتي للطالب منذ صغره وتدريبه عليها، فتوجد في المنهج وفي مختلف المواد موضوعات محورية تخلق هذا المفهوم لدى الطالب الطفل أولاً وترعاه لدى الطالب الأكبر سناً ثانياً، فمثلاً موضوعات القراءة وأمثلة النحو يمكن أن تكون حول مفهوم التعلّم الذاتي وقيمته والمعاني الدائرة حول ذلك ليكتسب الطالب هذه المعرفة بطريقة غير مباشرة، كما أن هناك بعض الأنشطة والمعارف في مواد وموضوعات مختلفة يمكن أن تقدَّم بطريقة تعلُّميّة أكثر منها تعلِيمية، ويمكن أن يكون من ضمن المنهج أن يختار الطالب محتوى من عنده من خارج المنهج ويقدّمه للطلاب ليعكس بذلك نشاطه التعليمي الذاتي ويضعه في بؤرة هذا السلوك، وما لم ينص المنهج على مثل هذا النشاط فإن المعلمين سيترددون في تطبيقه، بل ينطبق ذلك على أغلب مسؤولي التعليم، إذ درج الجميع على أن المؤسسة التعليمية هي مثال صارم للمؤسسة الرسمية التي تسير على محددات خاصة بها (إشكالية الخروج عن المنهج)، حيث تنعكس متطلبات الوظيفة وجوها الرسمي على بيئة التعلّم في الصف ليكتسب نفس الصفات ويسير بنفس الخطى، وهو سبب وجيه لكثير من التأخر الثقافي في ما تقدّمه المدرسة على وجه العموم ولكثير من الدول عبر العالم.
بدلاً من أن ينتظر واضعو المنهج المعلم ليقوم بمهمة تفعيل التعلّم الذاتي بأنشطة يبتدعها، فإن المنهج يمكن أن يكتب بهذا الأسلوب كما أسلفت ليقدّم للمعلّم قالباً أساسياً لتعلّم الطالب الذاتي، وهو ما سيساعد كثيراً من المعلمين في هذه المهمة غير السهلة، ويمكن أن يستلهم منه بعض المعلمين المبدعين قوالب أخرى يبتدعونها ليضفوا على تطبيقاتهم مزيداً من الجودة والأصالة كقيمة مضافة. وبالإضافة إلى دور المؤسسة التعليمية في صياغة المنهج فإنها تقدم للطالب الأدوات والوسائل التي تعينه وتشجعه على هذا السلوك الجديد فيجد كل المصادر التي يحتاجها موفرة له على الدوام، كما أن المهارات المتطلبة لتفعيل هذه الأدوات تم توفير دعم ومساندة كافية لها، والمؤسسات عليها أيضاً أن تنظّم الأنشطة اللا صفية التي تدور حول قيمة التعلّم الذاتي وتفعلها في تطبيقات عملية فعَّالة تضمن انتشار المفهوم وزرع أساس هذه العادة.
التعلّم هو أساس كل أحاديث المطورين التعليميين وحتى المسؤولين في المؤسسات التعليمية باختلاف مستوياتها من الروضة إلى الجامعة ولكن عندما تبحث عنه في طيات الممارسات اليومية والمنتجات التعليمية لا تجده أو ربما وجدته في صورة ظاهرية لا تلمس جوهر المخرج التعليمي، ولا أشك لحظة أن تحويل الفكرة إلى ممارسة مهمة شاقة ورحلة طويلة لذلك لا بد لها من أفكار غير نمطية وجهود مضاعفة.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً