د. عيد بن مسعود الجهني
شهدت الفترة مابين خمسينيات وتسعينيات القرن المنصرم حرباً باردة شرسة بين القطبين الأقوى في تلك الفترة من التاريخ الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي (السابق)، أمريكا امتد نفوذها في كل أركان الأرض وخاصة حروبها، منها الحرب الفيتنامية التي خرجت منها بعد تدمير غير مسبوق لذلك البلد، ووقفت مع إسرائيل في حربيها ضد مصر في عامي 1967 و1973.
على الجانب الآخر لم يتأخر الدب الروسي عن السياق فقد كان فارس الأزمة الكوبية عندما استقبلت كوبا الصواريخ الروسية، لتمثل نذير حرب مدمرة بين الغول الأمريكي والدب الروسي، لكن حوار (القوة) بينهما أنهى ذلك الصراع لتعود تلك الصواريخ من حيث أتت.
وعلى طريق ملحمة الصراع بين الدولتين صاحبتي (الفيتو) في مجلس الأمن اتجه الاتحاد السوفيتي (السابق) إلى أفغانستان ليحتلها طمعا في الاستراتيجية، ووقفت في وجهه أمريكا وساندها المسلمون الذين جاؤوا من كل حدب وصوب مدافعين، باعتبار أن الشيوعية تعتبر الدين أفيون الشعوب كما يراه ماركس وأتباعه، وهنا يكتب التاريخ العسكري فصلاً جديداً في تاريخ المحتل لأفغانستان لتصبح أحد أهم أسباب غياب شمس الاتحاد السوفيتي (السابق) الذي تسارعت الأحداث ضده، ليوقع غورباتشوف مع ريغان عام 1985 اتفاقية تخفيض ترسانة الأسلحة النووية ومنها الصواريخ بعيدة المدى، فألزم غورباتشوف بلاده بالتخلص بأكثر من (1500) صاروخ بينما الذكي ريغان لم يخسر سوى (800) صاروخ، لتبرز العبقرية الأمريكية في التفاوض واستغلال كل الظروف.
هذا جانب أما الآخر فالرأسمالية التي تقودها أمريكا وتطبق نظرية سميث ومن جاء بعده، اعتمدت هذه النظرية لتطبيقها ضد دولة شيوعية لا تؤمن إلا بنظرية كارل ماركس التي ثبت فشلها، وبدا أن الدول التي تسير في فلك الاتحاد السوفيتي وتطبق مبادئ الشيوعية والاشتراكية نالها الإعياء الاقتصادي وزادت حدة الفقر والبطالة فيها.
وما أن بزغت شمس تسعينيات القرن المنصرم حتى أعلن التاريخ أن الشيوعية أصابها الهرم وأنها غير قادرة على أن تقف على قدميها، وأعلن التاريخ أيضاً انهيار جدار برلين لينهار معه الاتحاد السوفيتي، وتتناثر الدول التي كانت تسير في فلكه مستقلة واحدة تلو الأخرى، ومنها دول أوروبا الشرقية لتنضم إلى الاتحاد الأوربي.
إذاً الغول الأمريكي استطاع أن يجعل انهيار الاتحاد السوفيتي (السابق) التاريخي يحدث دون أن تكون هناك حرب بين القطبين الأقوى في تلك الفترة من التاريخ السياسي والعسكري، بل ومن دون أن تطلق رصاصة واحدة، فالانهيار كان من داخل النظام السياسي نفسه الذي قاده جورباتشوف.
النتيجة الحتمية أن الولايات المتحدة انفردت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (السابق) بزعامة النظام الدولي كقوة وحيدة عظمى، ولذلك أصبح حلف الناتو المناوئ لروسيا أكثر قوة الذي أدار أحداث حروب البلقان وكوسوفو وتفكك يوغسلافيا، وقد استمرت السيطرة لأمريكا وحلف الناتو لأكثر من ثلاثة عقود وهذه ليست فترة قصيرة في عمر الدول.
لكن اليوم تغير الحال فدوامه من المحال، ثلاث دول تتصارع على النفوذ الدولي وهي لها حق (الفيتو)، في مجلس الأمن، وتملك قوة تدميرية بإمكانها تدمير الكرة الأرضية عشرات المرات، أمريكا تحتضن ترسانتها النووية أكثر من (7000) قنبلة نووية، ناهيك عن الصواريخ بعيدة المدى الحاملة لها، والأسلحة الأخرى وقواعدها تنتشر في كل أركان القارات، يدعمها حلف الناتو ومن دوله بريطانيا وفرنسا وهما دولتان نوويتان وصاحبتا حق (الفيتو) في مجلس الأمن.
على الجانب الآخر يتشكل حلف قوي روسي - صيني، الأول يتفوق على أمريكا بعدد قنابله النووية فله أكثر من (8000) قنبلة نووية مدعومة بصواريخ بعيدة المدى حاملة لها وأسلحة مدمرة أخرى، والصين تذكر التقارير أن قنابلها النووية التي كانت بحدود (400) أصبحت اليوم تقارب (900) قنبلة نووية وهي متطورة في أسلحتها الحاملة لتلك القنابل المدمرة.
ولا شك أن الاجتماع الأخير بين الرئيس الصيني شي جينبينغ والرئيس الروسي بوتين في 16 ديسمبر أعلن أن الدولتين ماضيتين في تقاربهما التحالفي ليمثلا قوة تجابه قوة الناتو، وهذا هو مربط الفرس في الصراع الدولي الجديد الذي يعلن عن حرب باردة في القرن الواحد والعشرين. هذا الصراع يبرز واضحاً في بحر الصين الذي استطاعت الصين أن تبني لها جزيرة صناعية في ذلك البحر الذي تجوبه سفنها ليلاً ونهاراً، وتقابلها القوة الأمريكية في بوارجها المتعددة في ذلك البحر لتضمن وجودها وحماية حلفائها كاليابان وكوريا الجنوبية.
أما قضية تايوان فإنها تمثل لب الصراع الصيني - الأمريكي، فالصين عينها على ذلك البلد الجار وتشير التقارير إلى أنها قد تحتله في المستقبل القريب، وبعض التقارير تذهب إلى أن الصين قد حددت بالفعل عام 2025 لهذا الحدث لتضم تايوان إليها.
كل هذه تنبؤات لكن الأهم أن الإدارة الأمريكية تؤكد مراراً وتكراراً أنها تقف بقوة مع تايوان ضد أي اعتداء صيني على أرض ذلك البلد.
قضية أخرى تصب الزيت على النار في الصراع الدولي الجديد ألا وهي قضية أوكرانيا، فروسيا بالفعل بعد أن احتلت جزيرة القرم حشدت قوة ضاربة على حدودها مع أوكرانيا وهذا ينذر بحرب ضروس قد تحدث بين الدولتين، والموقف الأمريكي والناتو واضح وهو الوقوف مع أوكرانيا ضد أي تهديد لسيادتها.
روسيا تشترط عدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو وسحب بعض القوات من الدول على حدودها، ناهيك أن القيصر الروسي من ضمن شروطه عدم ضم جورجيا التي سبق أن اقتطع جزءاً من أراضيها إلى حلف الناتو أيضاً.
العالم اليوم ليس عالم البارحة فهو يشهد صراعاً جديداً يغذيه التصعيد المتسارع بين روسيا وأوكرانيا، وتصعيد ساخن آخر بين الولايات المتحدة والصين في الباسفيك، ويمكن حصر التصعيدين كصراع أمريكي - روسي - صيني.
روسيا اليوم بعد عقود عديدة على انطوائها على نفسها بعد انهيار سلفها الاتحاد السوفيتي (السابق) ترى في نفسها أنها (قوة) كبرى، وعلى نفس النهج الصين بعد عقود متعددة وهي تبني اقتصاداً قوياً وقوة عسكرية ضاربة ترى أنها أصبحت (قوة) يحسب حسابها.
وبذلك فإن العالم اليوم شاهد على صراع قوى ثلاث تلعب أدواراً مختلفة في حرب باردة دولية جديدة قد تستمر لعقود كسابقتها، قبل أن يكتب التاريخ في صفحاته سقوط (قوة) جديدة ترثها قوة أخرى لتقوض دور قوة القوة الثانية لتنفرد بالساحة الدولية كقوة عظمى وحيدة وهذا لن يحدث في المستقبل المنظور.
إن المشهد العالمي سيبقى ملبداً بغيوم الصراعات الدولية وتقاسم النفوذ، وكل قوة ستدعم حلفاءها، كما نشاهد نحن العرب أن كلاً من روسيا والصين تدعمان إيران عسكرياً وتكنولوجياً في برامجها العسكرية.
ولذا فإن المفكرين والاستراتيجيين السياسيين والعسكريين الذين كانوا يعتقدون أن زمن الحرب الباردة قد ولى إلى غير رجعة بسقوط جدار برلين ومعه الاتحاد السوفيتي (السابق)، اليوم عليهم إعادة النظر في آرائهم وهم يرون تطور العلاقات الدولية بوتيرة متسارعة خاصة تلك التي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية من جانب وعلى الجانب الآخر روسيا، فالمسرح الدولي يقول إن صراع النفوذ بين العمالقة الثلاثة قد دخل مرحلة جديدة وإن كانت هناك عقبات تعترض كلاً من روسيا والصين، وتتفوق أمريكا صاحبة الاقتصاد الأقوى والسياسة الخارجية المنتشرة في قارات العالم.
يبقى القول إن الصراعات ستبقى في مضمونها على لعب أدوار ومكانة وهيمنة وتقاسم نفوذ بين القوى الثلاث، ولا تخلو من لعب أدوار التلويح بالقوة العسكرية كما تفعل روسيا مع أوكرانيا.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة