خلال منتدى مبادرة السعودية الخضراء الذي انعقد مؤخراً قبل أيام من اختتام فعاليات الدورة السادسة والعشرين من مؤتمر الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ «COP26» في مدينة جلاسكو، أعلنت المملكة العربية السعودية عن التزامها تحقيق الحياد الصفري بحلول عام 2060.
ويمثل هذا التوجه امتداداً لتعهد المملكة العربية السعودية سابقاً بتوليد نصف احتياجاتها للطاقة من مصادر متجددة ونصفها الآخر باستخدام طاقة الغاز بحلول عام 2030.
وتوجه قيادة المملكة العربية السعودية أيضاً بمواصلة العمل ضمن عدد من مبادرات الاستدامة الطموحة، بدءاً بتطوير منصة لتداول وتبادل تأمينات وتعويضات الكربون في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى مشروع «نيوم» الضخم الذي يتبنى أرقى معايير الاستدامة، ومشروعه لإنتاج 650 طناً من الهيدروجين الأخضر يومياً.
وستستفيد هذه المستهدفات والمشاريع، إلى جانب العديد من المبادرات الأخرى، من هدف آخر وضعته المملكة العربية السعودية لتكون رائدة عالمياً في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.
لا شك أن الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي وتحليلات البيانات تشكل ممكنات رئيسية للتحول بقطاع الطاقة وصولاً إلى المستوى الصفري. وفي الحقيقة، يتعين إدخال هذه الممكنات ضمن مسارات استخدام طاقة الرياح والطاقة الشمسية والنووية، إلى جانب قدرات التوربينات منخفضة الكربون والعاملة بالغاز الطبيعي كونها تشكل مرتكزات مهمة لاستشراف المستقبل المستدام الذي نضعه جميعاً نصب أعيننا.
وتشكل هذه المرتكزات أدوات قوية لتحسين عمليات تقنيات الطاقة المذكورة والارتقاء بأدائها، ناهيك عن عدد من المجالات الأخرى التي تعمل عليها المملكة ضمن مسارها للوصول إلى الاستدامة، بما في ذلك الهيدروجين الأخضر وتقنيات استخلاص الكربون واستخدامه وعزله، علاوة على إحداث تحول نوعي في القطاعات التي يصعب مواءمة عملياتها مع هذه الأهداف على غرار الصناعات الثقيلة، والبتروكيماويات، والتصنيع.
إن إمكانات الذكاء الاصطناعي والرقمنة قادرة على مساعدة تلك القطاعات في تعزيز كفاءتها، وتقليل التكلفة، والحد من الانبعاثات، وإدارة التقلبات والمخاطر الأخرى مع تحسين الجودة.
تبسيط التعقيدات
يقدم سوق الكربون المقترح مثالاً جيداً عن الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية لعبه في هذا المضمار.
فالشركات الصناعية المشاركة في سوق الكربون ستحتاج إلى قياس ومراقبة وضبط انبعاثاتها الكربونية. في حين يمكن للحلول الرقمية مساعدتها في جمع وتحليل البيانات على مستوى الأصول ومحطات توليد الطاقة والمستوى المؤسسي، ومنحها لمحة شاملة عن كامل انبعاثاتها بما يشمل الانبعاثات الناجمة عن أعمالها المباشرة؛ والانبعاثات غير المباشرة الناجمة عن منتجاتها المستخدمة في توليد الطاقة والتبريد والتدفئة وغيرها؛ وحتى الانبعاثات غير المباشرة الصادرة عن منتجاتها المستخدمة ضمن كامل سلسلة القيمة المرتبطة بأعمالها. ويمكن للبرمجيات الرقمية بعد ذلك تقديم التوصيات حول معايير العمليات التشغيلية للحد من الانبعاثات والمساعدة في تحقيق الأهداف المحددة، ومن ثم قراءة الفرص المواتية لتقليص الانبعاثات إلى مستويات أدنى. فإذا ما وضعت الشركات أولى خطواتها على هذا الطريق اليوم، ستكون على أهبة الاستعداد لمزاولة أعمالها في هذا السوق عند ظهور معالمه.
وفي سياق مشابه، يمكن للذكاء الاصطناعي والحلول الرقمية المساعدة في تحسين أداء التقنيات الجديدة المعقدة على غرار الهيدروجين الأخضر واستخلاص الكربون واستخدامه وعزله، حيث يمكن لهذه التقنيات مساعدة المملكة في تقليص الانبعاثات ضمن القطاعات التي تتسم باعتمادها الشديد على الطاقة، مثل مصاهر الألمنيوم وتصنيع الحديد، وإيقاف الانبعاثات الصادرة عن محطات توليد الطاقة العاملة بالغاز.
ويمكن للتحول الرقمي تحسين العمليات ضمن البنية التحتية المخصصة لاستخلاص الكربون ومعالجته ونقله وعزله وسلسلة القيمة المنوطة بها. وبالمثل، فإن البنية التحتية المخصصة لإنتاج الهيدروجين ونقله وتخزينه وتوزيعه معقدة ومتشابكة، وبالتالي يمكنها الاستفادة من الحلول الرقمية لتقليل التكاليف وتحسين كفاءات العمل.
أما المجال الثالث الذي سيكون من أكبر المستفيدين من إمكانات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية فهو شبكة نقل الطاقة. ففي ظل عدم استقرار مصادر الطاقة المتجددة واستمرار نمو توليد الطاقة الموزع، إلى جانب ارتفاع تحويل وسائل النقل والتصنيع والقطاعات الأخرى إلى نموذج العمل القائم على الطاقة الكهربائية، سيتعين على شبكات نقل الطاقة في المستقبل أن تكون أكثر ذكاءً ومرونة وقوة لضمان استقرار وأمان منظومة الطاقة بالكامل.
وستكون فرق العمل المسؤولة عن نقل الطاقة وتوزيعها أكثر قدرة على ضبط تدفق الطاقة، وستمتلك وعياً أكبر ورؤى أكثر دقة حول شبكات الطاقة، الأمر الذي يقود إلى تعزيز موثوقية الطاقة الكهربائية وتوافرها، ويمكنهم من مواجهة تقلبات إمدادات الطاقة وتلبية الطلب عند بلوغه مستوى الذروة، إلى جانب التعامل مع الحالات الطارئة والتقلبات في عملية نقل الطاقة وتوزيعها.
توحيد العمل
يمكن للتحول الرقمي أيضاً دفع عجلة التحسينات والكفاءات التشغيلية من خلال توحيد البيانات وسير العمل والأنظمة. كما أن الحلول الرقمية تعزز القدرة على مراقبة كفاءة عمل المؤسسة بدقة وإدخال العديد من العمليات والأنظمة المختلفة حسب الحاجة.
وعلى سبيل المثال، غالباً ما يتم التعامل مع إدارة المخزون وإدارة الأصول كعمليتين منفصلتين، إلا أن ضمان تكامل هذه الأنظمة عبر منصة واحدة يمكن المشغلين من اتخاذ قرارات أفضل على مستوى المخزون في ضوء بيانات مباشرة توضح صحة الأصول ومتطلبات صيانتها، وبالتالي الحد من المخاطر التشغيلية الناجمة عن المعدات التي تتطلب عملية صيانتها وقتاً طويلاً.
من خلال الجمع بين مسارات أعمال البيئة والصحة والسلامة مع إدارة الانبعاثات والعمليات العامة، يتمكن مدراء محطات الطاقة من استخدام بيانات البيئة والصحة والسلامة للحد من الانبعاثات أو إجراء تغييرات إيجابية في مجالات مثل التصميم والخصائص الهندسية.
إلى جانب إعلان المملكة العربية السعودية مؤخراً عن التزامها بالحياد الصفري، فقد أظهرت تقدماً لافتاً في جهود إزالة الكربون منذ سنوات عديدة، وأثبتت ريادتها عبر التزامات جريئة ومنهجيات عمل مبتكرة. ويتجلى هنا تحديداً الدور المهم للتقنيات المتقدمة على غرار الطاقة المتجددة، والتوربينات الغازية منخفضة الانبعاثات الكربونية، والهيدروجين وتقنيات استخلاص الكربون واستخدامه وعزله.
وعلى أي حال، من الأهمية بمكان، مع تصميم هذه الأنظمة وتطويرها، أن ندرك الدور الحيوي الذي تلعبه إمكانات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية وتحليلات البيانات لمساعدة هذه الأنظمة للعمل بأسلوب أكثر كفاءة، وبأقل قدر ممكن من الوقود والانبعاثات، وبأسلوب أفضل يكفل الحصول على جودة أفضل تزامناً مع أقل قدر ممكن من المخاطر.
بما أن رؤية السعودية 2030 هي منطلق العديد من مبادرات إزالة الكربون، وباعتبار أن التقنيات الرقمية تمثل ممكنات قوية لهذه الالتزامات، فإن المملكة العربية السعودية على الطريق الصحيح لاستشراف المستقبل الأكثر استدامة، وهو أمر سيعود بفوائد هائلة على سكان المملكة واقتصادها، والمنطقة والعالم بأسره.
** **
هشام البهكلي - الرئيس لدى «جنرال إلكتريك» في المملكة العربية السعودية والبحرين