علي الخزيم
قدماء العرب وأحفادهم إلى عهد قريب يعود لعشرات السنين إذا حدَّثوا عن القهوة فإنما قصدهم (النبيذ) وما يُماثله غالباً مما يُخامر العقل، وكانوا يعصرون أصنافاً عند تناولها (تُقْهِي) عن الطعام؛ وتصد النفس عن اشتهائه، قال بذلك ابن منظور الأنصاري في لسان العرب وغيره، وقال أحدهم يعارض قصيدة ابي نواس (دع عنك لومي) يمتدح القهوة العربية:
صفراء تَضحَك فيها الشمس تحسبها
تِبْراً يُذاب ومسكا عقه الماء
في أهيفٍ من أباريق مُنَعَّمة
كأنها في اختناق الخصر عذراء
وهنا وصف قهوة عبد الجبار بن حَمدِيس الأزدي، وهي القهوة بمفهومها القديم قبل البُن:
أشِهابٌ في دُجى الليل ثَقَبْ
أم سراجٌ نارُهُ ماءُ العِنَبْ!
قهْوَةً، لو سُقِيَتْها صخرة ٌ
أورقتْ باللّهو منها والطَّربْ
كلَّما مَوّجَهَا المزنُ أرَتْ
حببَ الفِضّةِ في ماءِ الذهبْ
أما اليوم فاللفظ أخذ منحىً يدل على اللقاء، بوصفها مقهى ومكاناً للتلاقي، حتى أن بعض المقاهي اكتسبت شهرة واسعة وذاع صيتها من أسماء مُفكِّرين وكتَّاب وأدباء كانوا من روادها، فقهوتنا الحديثة من نقيع البن، وسُمِّي مكان صنعها وبجانبها الشاي باللهجة الدارجة على اسمها (قهوة) وأخذت معظم لغات العالم الكلمة ولفظتها بلفظ قريب من اللفظ العربي، وهي تُشرب بقدح يُسمَّى (الفنجان ـ أو الفنجال)؛ وفي بعض كتب اللغة قالوا: الفِجَّانة: إناءٌ من صُفْر، وجمعها فجاجين، وجاءَ في تاج العروس: الفِلجُ (بالكسر: مكيالٌ) وأصله بالسُّرْيانيَّة: فالِغَاء، فعُرِّب، ومنه سُمِّي قدح القهوة فِلْجَان، والعامَّة تقول: فِنْجَان، وفِنْجال.
وبوقتنا الحالي اخذت قهوة البن مكانتها العالية المرموقة بين سائر المشروبات، وتبوأت مكانة مُصاحبة لصالونات الأدب والفكر والثقافة، غير أنى ما زلت على رأي قلته سابقاً (بأنه يمكن للشاعر والروائي وغيرهم أن يُبدعوا حتى وإن تناولوا بَدل القهوة خساً وجرجيراً)! فقد أضحت القهوة تقليداً عربياً لا غنى لأي منزل عنها، بل إنها تحتل قمة مراسم الضيافة العربية ولكل بلد طريقته بإعدادها وتقديمها للضيوف، وقد برز الآن سؤال مُلحّ:(مَنْ أول من تَقَهوى)؟! بحثت عن الإجابة بقراءة هنا وهناك؛ فوجدت القوم بين رأيين؛ إما أن راعياً للغنم جنوب المملكة حالياً تشتهر بالبن لفت انتباهه تقافز غُنَيماته ومرحها حين تقضم ثمار ووريقات تلك الشجيرة، فأجرى تجربته وتوصَّل بالنهاية إلى تحميص الثمار وتناولها، وبمرحلة لاحقة غَلْيها كشراب ساخن طيب المذاق، الرأي الثاني يتفق مع مراحل الاكتشاف لكنه ينسبه لراع آخر من بني قومه، وقيل إن القهوة انتقلت من أطراف اليمن إلى مكة المكرمة ومنها انتقلت عن طريق التجَّار والحجاج إلى بلاد كثيرة، وكما نتذكَّر مع اشتداد حر الصيف مُخترع جهاز تكييف الهواء، ومثله مبتكر الهاتف المحمول، ومُركِّب الدواء العجيب لأشباه المتقاعدين عن النشاط ليلاً؛ فإنه يجب تسجيل الإعجاب لمكتشف قهوة البن ذلكم الشراب المنبِّه طيب المذاق والنكهة، فإن اختلف الرواة حول اسمه وبلده فإني اكتفي بتسميته (أول من تقَهوَى)، وأجدها فرصة لدعوة شبابنا بعدم المبالغة بارتياد المقاهي رفيعة الأسعار، جربوا قهوة (فيفا ـ جازان) واصنعوها بمنازلكم فهي أطيب.