قد لا يكون غريباً أن يختلف بعض النَّاس فيما بينهما في حدود القضايا الاجتماعيَّة المتعدِّدة... ولكن الغريب حقّاً أن يصبح الخلاف والنزاع والشقاق مستمراً فيما بينهم فالمرء أحياناً لم يتصور في يوم من الأيَّام أن كل شيء سينتهي بالخلاف والشقاق في أمور ليست صعبة الحل بل تحتاج من الكل الحكمة والتأني والتريث والتأمل والتدبر والتروي من قبل الأطراف المتنازعة، ربما المرء أحياناً أغاظه التصرفات الهوجاء التي حدثت أمام ناظريه عندما طلب منهم العون والمساعدة مستنجداً ومحتمياً بهم في وقت الأزمات إلا أنه لم يلمس منهم رحابة صدر ولا قبولاً بالشكل الذي يتمناه أو يسعى إليه بل العكس من ذلك بل وجد أمام ناظريه ومسمعيه أناساً شبه أعداء ووحوشاً تطارده في كل وقت وحين بدون أسباب جوهرية تحتاج إلى الوقوف على لب المشكلة إلا أنهم ليسوا أهل عدل ونزاهة وأمانة فقد باعوا ذممهم ولم يقفوا على قول الحق بل وقفوا على قول الباطل فكان المرء صابراً ومحتسباً خلال فترة بقائه بينهم إضافة لذلك كان متحملاً أساليب أذى ألسنتهم كافة التي تصدر إليه في كل وقت وحين بطرق ينتابها الاحتقار والاستهتار والتعالي والتغطرس إلى جانب المطالبات المادية غير الواقعية فالإسلام يعرف للكلمة خطرها، ويدرك تمام الإدراك أهميتها وتأثيرها في بناء الأسرة أو هدمها. إن الإنسان الذي يشكو من مركب النقص تجده دائماً يصغر ويحتقر أعمال وتصرفات غيره ولو كان كبيراً، ويحاول بقدر الإمكان أن يعظم أعماله هو ولو كان حقيراً.
فقد قال نبي الرحمة مُحمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه: «لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخواناً» متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب أو قال العشب» رواه أبو داود.
لا أعتقد أن في حياة المسلم الحق ما هو أبهج عليه من أن يأتمر بما أمر الله تعالى، وينتهي عما نهى، ويجعل الرسول العظيم مُحمداً - صلوات الله وسلامه عليه - مَثلَه الأعلى على الدوام بل ليس أطيب على قلب المؤمن - وهو يؤدي هذه التوجيهات وهذه الأوامر النيرة - من أن يفعل ما فعل نبي الرحمة مُحمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه. فهذا المرء الذي تكالبت عليه الأطراف من كل حدب وصوب، فإنه ولله الحمد والمنة يمتاز بشخصية قوية تبدو لنا من بين سطور أقواله وأفعاله وتصرفاته وتعابيره وحكمه ورؤاه.. إنه شخصية أقل ما يقال فيها إنها تنشد المثل العليا، ومكارم الأخلاق والتعامل الأخوي والإنساني الأمثل..!!
وأغلب أفكاره تدور في فلك الكلمة الطيبة الصادقة فهو متجدد الأفكار والأهداف يحاول ألا يعيد نفسه إلى الوراء فالذي لديه إحساس بالنقص لا يتوانى في أن يسيء إلى من هم أرفع منه ويصفهم بما ليس فيهم.
لم يبدد الصمت المحدق عزائمه وقدراته بل كان وسيلة دعم وتشجيع حتى يحقق شيئاً يريده، وذلك من أجل اغتيال الكآبة بداخله.. وليست الأزمات هذه مقصورة على أمة من الأمم نتيجة لعوامل بيئية واجتماعية تخصها وتنفرد بها.. ولكنها مع حزن شديد تكاد تأخذ صفة العموم والشمول لجل البيئات والمجتمعات قريبة وبعيدة تشهد الأبصار وتصغي لأحداثها المسامع والقلوب...
ولا شك أن الأسباب التي أوقدت شرارة ذلك اللهيب المستعر كثيرة ومتعددة وفي مقدمتها التنكر للقيم الروحية والمبادئ والموروثات الاجتماعية التي كانت حارساً أميناً لكثير من الأمم السالفة فهي تهديها إلى سواء السبيل فلا تزالُ بها قدم ولا تتعثر بسلوك مظلم.. حيث إن القيم الُمصلحة في المجتمع على مر العصور حبة موفورة تقوم أصولها على تراث مجيد من الأخلاقيات والسلوكيات وبكل أسف.. فلو أنصف كل إنسان من نفسه.. وأحب لأخيه ما يُحب لنفسه ورعى حق أخيه.. وسار في حياته عادلاً معتدلاً.. كسب الأجر والمثوبة من رب العباد استناداً على ما قيل عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تولى مجال القضاء بأمر من الخليفة أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في المدينة المنورة لمدة عام واحد ولم يفتح جلسة محاكمة ولم يختصم إليه اثنان فطلب بعد نهاية السنة من الخليفة أبي بكر الصديق إعفاءه من مجال القضاء...! فأجاب الخليفة/ عمر بن الخطاب قائلاً: لا يا خليفة رسول الله، ولكن لا حاجة لي عند قوم مؤمنين بالله سبحانه وتعالى قد عرف كل منهم ما له من حق فلم يطلب أكثر منه وما عليه من واجب فلم يُقصر في أدائه.. أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه إذا غاب أحدهم تفقدوه.. وإذا مرض عادوه.. وإذا افتقر أعانوه.. وإذا احتاج ساعدوه وإذا أصيب واسوه.. دينهم النصيحة.. وحقهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. ففيم يختصمون؟
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذا مهابة وجلال وروعة، فلا تستطيع العين أن تدقق في محاسنه ولا أن تجبل النظر فيه فكان ينظر شزراً، ويقتحم الناس بعينه الواسعتين اقتحاماً، فلا تلبث الرؤوس أن تطأطئ مهابة، ولا تلبث العيون أن تفضي إشفاقاً وزاد من مهابة أنه كان صارماً في الأمر، حازماً في الرأي، حاسماً في الجدل فلا يقبل مراجعة ولا نقاشاً. وكان إلى ذلك كله واضح القصد والكلمة واضح النظر والنبرة. فلا يخضع لأمر ((ما)) ولا يخضع لريبة ((ما)) فقد أكسبه التدريب والتمرس على أعمال القتال صلابة في العود وصلابة في المعاملة وصلابة في الرأي والتدبير.
فنحن في عصر لم نعد نتبين فيه وجه الحق، وعلى نفوسنا التي لم تعرف الصدق والأمانة بهوى مطامع النفس فقد غشينا الضلال.. ويا أسفاه.. فبتنا لا نلتزم الصدق والأمانة حتى مع نفوسنا.. وأهلينا وكأنما قد عنانا الشاعر بقوله حين دوى صوته بهذه الأبيات المبحوحة:-
الصادقون يتامى في مدينتنا
في جيلنا يمضغون اليأس والألما
الصادقون وهم في الأدب قافلتي
وإن حصدت الضباب المر والسأما
نبني على شرفات الغيب أغنية
تبقى وتذهب في جفن المدى حُلما
فقد تحول الصادقون إلى يتامى وفرادى يعيشون في عصر ملؤه الكذب والخداع والحسد والحقد والبغضاء والكراهية ليس على الناس والأهل، وإنما حتى مرارة المراوغة.. وغصة البهتان والمماطلة.. بل والتحايل بشتى وسائل الخداع حتى تمكنوا من إبعاد أخ لهم من المنزل بدون أسباب جوهرية ظلماً وعدواناً.