عبدالرحمن الحبيب
جغرافية الأرض هذه التي نعيش فوقها هي التي تشكل الحرب والسلام والقوة والسياسة والتنمية الاجتماعية للشعوب. قد تبدو التكنولوجيا قادرةً على تجاوز المسافات الطبيعية والمعنوية، لكن من السهل نسيان أن الأرض التي نعيش فوقها ونعمل ونربي أولادنا تلعب دورًا بالغ الأهمية، وأن خيارات القادة الذين يقودون المليارات السبعة فوق ظهر البسيطة ستظل محدودةً نوعًا ما بالأنهار والجبال والصحاري والبحيرات والبحار التي تطوقنا جميعًا، مثلما كانت منذ الأزل.
هذا الأطروحة المبالغة لدور الجغرافيا هي مما قاله تيم مارشال مؤلف كتاب «سجناء الجغرافيا: عشر خرائط تشرح كل شيء عن العالم» في عام 2016، ورغم مرور سنوات على نشره إلا أنه لا يزال في الاستطلاعات من أكثر الكتب قراءة لعام 2021 (فورين بولسي). ربما بسبب ما شهده العالم هذه السنة ولا يزال يشهده من اشتداد صراع الغرب مع روسيا حول أوكرانيا، والغرب والصين حول تايوان، والمناوشات الحدودية الدامية الحدود التي كادت تشعل حرباً بين الهند والصين.. إلخ.
لماذا يهتم بوتين بشبه جزيرة القرم مما قد يشعل حرباً في أوكرانيا؟ لماذا كان مقدراً للولايات المتحدة أن تصبح قوة عظمى عالمية؟ لماذا تستمر قاعدة القوة الصينية في التوسع؟ لماذا مصير التبت أن تفقد حكمها الذاتي في الصين؟ لماذا لن تتحد أوروبا أبدًا؟ الإجابات جغرافية حسب مارشال.
يرتاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دائماً بالغرب، لماذا؟ يوضح المؤلف أن روسيا خلال السنوات الـ 500 الماضية تعرضت للهجوم عدة مرات من الغرب: جاء البولنديون عبر الساحة الأوروبية في عام 1605، أعقبهم السويديون بقيادة تشارلز الثاني عشر في عام 1707، والفرنسيون بقيادة نابليون في عام 1812، والألمان مرتين في كلتا الحربين العالميتين عامي 1914 و1941 وكانت الضحايا بالملايين..
لذلك لم يكن أمام بوتين أي خيار سوى السيطرة على شبه جزيرة القرم ومينائها المائي الدافئ سيفاستوبول.. وعلى هذا المنوال كانت الصين دائماً ملزمةً بالسيطرة على التبت لمحاذاتها مع الهند. ومن هنا لم يكن السلوك العدواني الروسي نتيجة أخطاءٍ وقع فيها بوتين أو الغرب، ولا يوجد بديلٌ للسمة القومية التي تهيمن على الحزب الشيوعي الصيني..
جميع قادة الدول مقيدون بالجغرافيا، فعلاقات الدول مع جيرانها لا تزال تمليها خصائصها الطبيعية، بينما ينسى كثير من المحللين السياسيين أن القضايا والخلافات السياسية الخارجية تتأثر بالجغرافيا، بل إنها تلعب دوراً رئيسياً في العلاقات الخارجية بين الدول.. الموقع، الطقس، والبحار، والجبال والسهول، والأنهار، والصحاري، والحدود.. كلها توفير سياق غالبًا ما يكون مفقودًا من تقريرنا السياسي، حسب الكتاب.
الخصائص الطبيعية للبلدان تؤثر على نقاط قوتها ونقاط ضعفها والقرارات التي يتخذها قادتها؛ فلا تزال علاقات الدول مع جيرانها تمليها خصائصها الطبيعية، فمثلاً السهول المفتوحة في عصر الطائرات بدون طيار والهجمات الإلكترونية من طراز بريداتور، تجعل روسيا منشغلة بالسهل البولندي الذي يبلغ عرضه 300 ميل، وهو ساحة معركة رئيسية للجيوش التي تندفع شرقاً وغرباً.
وفقاً لذلك المنطق، تأتي الأيديولوجيات وتذهب، لكن مثل هذه الحقائق الجيوسياسية للحياة ثابتة، فالجغرافيا تشكل التاريخ ومصير ومستقبل المنطقة/ البلد، حسب المؤلف. ومن هنا يوجه أكبر النقد لمبالغة المؤلف في دور الجغرافيا والقطعيات والحتميات التي يطلقها في تحليل الأحداث؛ فالجغرافيا السياسية لا تفسر كل شيء، والسياسات التي تتخذ وسلوكيات الحكام والحكومات لا ترجع فقط إلى الموقع الجغرافي والسمات الطبيعية للأراضي للدول ولكن أيضًا إلى مجموعة من عوامل أخرى.. يوجد في العالم ما هو أكثر بكثير من الموقع والأنهار والسهول والجبال.
يغطي الكتاب أقاليم العالم مركزاً على كيفية تشكيل المناطق الجغرافية الطبيعية لخرائطها السياسية والاجتماعية الحديثة، معطياً خلفية درامية حول كيفية ظهور مناطق العالم على ما هي عليه اليوم. يتكون الكتاب من عشرة فصول ويستخدم الخرائط والمقالات وأحياناً التجارب الشخصية للمؤلف كثير الأسفار؛ ليوفر إطلالةً على ماضي الجغرافيا وحاضرها ومستقبلها، باعتبارها أحد العوامل الأساسية التي تحدد تاريخ العالم. تتناول الفصول العشرة المناطق التالية بالترتيب: روسيا، الصين، الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، إفريقيا، الشرق الأوسط، الهند وباكستان، كوريا واليابان، أمريكا اللاتينية، القطب الشمالي.. في مقدمة كل فصل يضع خارطة المنطقة والقوى العظمى.
الكتاب يأخذ اتجاه السير هالفورد ماكيندر، الذي افتتح تخصص الجغرافيا السياسية بمحاضرة للجمعية الجغرافية الملكية عام 1904 في لندن، وأفكار ماكيندر تلقي بظلالها على الكتاب لا سيما الأهمية الإستراتيجية للسهول، لكن مارشال يفعل أكثر من مجرد تحديث أفكار ماكيندر؛ ففي قلب عمله أطروحة محبطة بقدر ما هي جذرية: أن الحالة الراهنة المختلة لوظائف العالم هي المكان الذي سننتهي إليها دائمًا (فايننشال تايمز).
ورغم النقد الذي تعرض له الكتاب إلا أنه بمثابة تذكير بجسامة دور الجغرافيا في الشؤون الدولية ويغطي جانباً قد يغيب عن التحليل السياسي، فضلاً عن أنه ممتع لعشاق الجغرافيا والتاريخ والسياسة، وخاصة عشاق الخرائط فهو يقدم طريقة جديدة للنظر إلى الخرائط «في عالم أكثر تعقيدًا وفوضويًا وترابطًا، يعتبر «سجناء الجغرافيا» كتابًا تمهيديًا ومفيدًا عن الجغرافيا السياسية، ودليلاً نقدياً لواحد من العوامل الرئيسية المحددة في الشؤون العالمية» (نيوزويك).