د. محمد بن يحيى الفال
مع الإعلان عن ميزانية الدولة التريليونية والمُبشرة بالخير والنماء التي تزامنت مع وصول قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية للمملكة للمشاركة في فعاليات الدورة الثانية والأربعين للمجلس في قمة إعادة مسار التعاون الخليجي إلى وضعه الفاعل الذي أنشئ من أجله المجلس لتحقيق أمن ورخاء شعوب المجلس، بكل هذه المُبشرات عادت بنا الذاكرة لعقود مضت لأوائل سنوات التوحيد التي قادها وبكل بسالة وبطولة الملك عبدالعزيز رحمه الله بتضحيات جمة ولنتائجها الباهرة التي تشبه المعجزة ونراها مائلة أمام أعيننا اليوم فقد تطرق لتوثيقها الكثير من المؤرخين والساسة والإعلاميين ومنهم المؤرخ البريطاني أرمسترونغ في كتابه: عبدالعزيز ملك جزيرة العرب، سيرة مُلهمة عن ملك «Lord of Arabia:Ibn Saud.The Intimate Study of a King، موضوع هذه المقالة الذي صدر عن دار كيغن باول البريطانية باللغة الإنجليزية برعاية دارة الملك عبدالعزيز ونُشرت طبعته الأولى عام 2005 ويقع الكتاب في 296 صفحة مُقسمة إلى 15 جزءاً وكل جزء منها مكون من عدد من الفصول. ومع توجه الأنظار دوماً للرياض عاصمة العروبة في أوقات الرخاء والشدة فهناك قصة مُلهمة عنها بدأت بمغامرة محفوفة بكل أنواع المخاطر قادها الملك عبدالعزيز بكل بسالة وشجاعة منقطعة النظير لاستردادها ولتنطلق منها الحملة تلو الأخرى لتوحيد جزيرة العرب في فترة قصيرة بدولة شبة قارة تبلغ مساحاتها 2.15 مليون كيلومتر مربع ويُسطر أرمسترونغ هذه الحقبة في كتابه عن الملك عبدالعزيز ونرى رصده لهذه الأحداث في الجزءين الأوليين من كتابه حيث خصص الجزء الأول لرصد نشأة الملك عبدالعزيز وتأثره الشديد بوالده الإمام عبدالرحمن ووالدته وأخته رحمهم الله وفي الجزء الثاني خصصه لسرد قصة استرداد الرياض بتفاصيل مُلهمة تلهب الخيال عن شخصية ملك غامر بحياته من أجل بلوغ حلمه بعودة ملك آبائه وأجداده.
في مقدمة الكتاب يتطرق الكاتب لشرح مقتضب ولكن غني بالمعلومات المهمة وذات العلاقة بتاريخ الجزيرة العربية قبل وبعد الإسلام وكيف أنها انكفئت على نفسها لمئات السنيين بعد انتقال السلطة منها في صدر الإسلام إلى حواضر دمشق وبغداد واستانبول وبعودة الروح لها مجدداً باللقاء التاريخي الذي غيّر مجرى الأحداث بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمها الله ولتنطلق بعد سنوات من هذا اللقاء موجة ثانية من الفتوحات وصلت لتخوم الشام والعراق شمالا وشواطئ المحيط الهندي جنوباً وهو الأمر الذي أرعب القوى السياسية التي رأت أنه تهديد لمصالحها مما حدا بإحدى هذه القوى متمثلة في العثمانيين في توجيه حملات عسكرية ضخمة لقلب الجزيرة العربية أسند أمرها لمحمد علي باشا وفي هذه الظروف الصعبة والخطيرة والأحداث المتسارعة التي تلت وشهدتها جزيرة العرب ولد الملك عبدالعزيز.
بعد هذه المقدمة ينتقل الكاتب للجزء الأول الذي قسمه لخمسة فصول تطرق فيها عن سنوات الملك عبدالعزيز الأولى في الرياض ونشأته وتربيته وتأثره الشديد بثلاث شخصيات من عائلته تركت في نفسه بالغ الأثر في تكوين شخصيته وهم والده الإمام عبدالرحمن ووالدته الأميرة سارة بنت أحمد السديري وأخته الأميرة نورة بنت عبدالرحمن رحمهم الله.
في هذا الجزء وصف دقيق للحياة في نجد والصراعات التي قوضت الأمن والسلم فيها والتي كانت الشغل الشاغل للإمام عبدالرحمن الذي وضع أمام نصب عينيه هدفاً جوهرياً ليحققه وهو جمع كلمة العرب تحت راية واحدة بعيداً عن الفتن والنفوذ الأجنبي، هدف ألزم نفسه بتحقيقه وربي أبناءه على التمسك بهذا الهدف وبذل الغالي والنفيس لتحقيقه واتصف الإمام عبدالرحمن بشخصية حكيمة متزنة ورثها عنه ابنه عبدالعزيز الذي علمه في صباه إتقان فنون الحرب والفروسية وتحمل المشاق وهو الأمر الذي أثر في شخصية الملك عبدالعزيز بمقدرته على التسامح السريع مهما سبب له الموقف الذي يواجه من غضب أو عدم ارتياح. في هذا الجزء وصف شيق وممتع للشجاعة النادرة والفطنة وتحمل المشاق وأخذ القرارات السليمة وفي الوقت المناسب التي امتاز بها جميعاً الإمام عبدالرحمن ومنها رفضه القاطع لتلقي المساعدة من القوى الأجنبية الفاعلة في ذلك الوقت رغم حاجته الماسة لذلك باستشعاره بأن هذه القوي تلعب على الخلافات بيت الفرقاء من أجل فرض هيمنتها وفي نهاية المطاف لم يجد الإمام عبدالرحمن بُداً من ترك الرياض باتجاه الشرق للأحساء وذلك لسبب جوهري هو الحفاظ على أرواح الناس من نتيجة الصراعات التي بدت تلوح في الأفق. خلال هذه الظروف الصعبة رافق الملك عبدالعزيز والده وشاركه في كل تفاصيلها الدقيقة حتى أستقر بهم الحال في الكويت.
الجزء الثاني يحتوي على تسعة فصول تبدأ بوصف الحياة في الكويت التي كان يقطنها الكثير من أهل نجد الذين قدموا إليها للتجارة حيث كانت تبدأ منها القوافل المحملة بالسلع من الهند وفارس إلى قلب الجزيرة العربية وسوريا وكان تجار نجد ينقلون تطورات الأخبار من نجد للكويت وكانت هذه الأخبار تزيد من شغف واشتياق الإمام عبدالرحمن للعودة للرياض.
في حقبة الشيخ مبارك الصباح رحمه الله ازداد الاهتمام الدولي بالكويت من قبل العديد من القوي العالمية حينها والتي شملت الروس والإنجليز والألمان والأتراك وكانت وفودهم تصل لديوان الشيخ مبارك الذي قرب منه الملك عبدالعزيز بعد أن استشعر فيه صفات الفطنة والشجاعة ورجاحة الرأي وسرعة البديهية رغم صغر سنه وكانت هذه الفترة حاسمة في تعرف الملك عبدالعزيز عن قرب على العالم الخارجي وهو الذي كان وبحكمة ينصت بإمعان لما يدور من نقاشات سياسية في ديوان الشيخ مبارك. بعد محاولتين لم يكتب لهما النجاح للعودة للرياض وبعد ست سنوات من الإقامة في الكويت وبلوغه سن العشرين وصل الملك عبدالعزيز لقناعة لا تتزعزع بأن الآوان قد حان للتحرك للتحقيق حلمه وحلم والده الإمام عبدالرحمن بالعودة للرياض ولم يعد يتحمل تأخير تحقيق هذا الحلم رافضاً التقاعس والركون وبغض النظر عن كافة الظروف غير المواتية التي أحاطت به. في هذه الظروف قرر الملك عبدالعزيز مع ثلاثين من أقاربه واصدقائه وعلى رأسهم أخوه الأمير محمد والأمير عبدالله بن جلوي بالتحرك نحو الرياض وودع والديه وشقيقته وبقية أفراد أسرته وتوجه صوب الرياض في رحلة محفوفة بالمخاطر من ألفها إلى يائها. في طريقه للرياض وصله مرسول من والده الإمام عبدالرحمن يطلب منه العودة للكويت بعد أن نما إلى علمه بأن الظروف غير مواتية لدخول الرياض ولكن الملك عبدالعزيز طلب من المرسول إبلاغ والده خالص السلام وبأن يبلغه التالي «راهنت على نجاح المهمة بالموت في سبيل تحقيقها ولن أعود حتى يكتب لي النجاح أو استشهد دونها والموت أهون علي من الفشل ووكلت أمري لله».
خطة الملك عبدالعزيز لاستعادة الرياض تركزت على توجيه ضربة خاطفة ومفاجئة وعليه توارى هو ورجاله عن الأنظار لمدة خمسين يوماً وأشيع بأنهم تفرقوا عنه وكانت أيام انتظار عصية على رفاقه وكان يرفع من معنوياتهم ويحثهم على الصبر ليتحقق النجاح للمهمة شبه المستحيلة التي في انتظارهم. بعد تناول طعام الإفطار وتأدية صلاة المغرب في اليوم العشرين من شهر رمضان أمر الملك عبدالعزيز رجاله بالتحرك وبأن المهمة قد بدأت. الخطة شملت السير ليلاً والتخفي نهاراً حتى وصلوا إلى آبار أبو جفان حيث أدوا صلاة عيد الفطر ومنها أكملوا تحركهم حتى بساتين الشغيب التي تبعد مسافة ساعة ونصف مشياً على الأقدام من الرياض. في هذا الموقع أمر الملك عبدالعزيز عشرين من رجاله على رأسهم أخوه الأمير محمد بالبقاء وبألا يلتحقوا به حتى يرسل لهم وفي حالة مرور يوم على عدم وصول مرسول من طرفه عليهم العودة للكويت وإعلام والده الإمام عبدالرحمن بأنه استشهد.
عند منطقة الشميسي حيث تبدأ المساحات الخضراء المفتوحة تاركة من ورائها أشجار النخيل، عند هذه النقطة تحرك الملك عبدالعزيز وأربعون من رجاله نحو حصن الرياض واستطاعوا اختراقه وما هي إلا ساعات فقط يصف الكاتب غالبية تفاصليها حتى تمت السيطرة التامة على الحصن واستعادة الرياض وليعلن المكبر بأن المُلك لله ثم لعبدالعزيز.