الهادي التليلي
الراهن بما هو أحداث تقع في زمان ومكان المتكلم هو الوجود الفعلي والعيني ووسائل الإعلام المرئية والتي من بينها قطاع الفضائيات، تسعى بحكم المنجزات المتحققة على الصعيدين التكنولوجي خاصة والعلمي على وجه الخصوص إلى تسجيل الحضور في المواكبة الإيبستيمية لهذا الواقع وغيره من ماض ومستقبل ونقل ما يحدث في العالم لمن يسكنون هذا العالم. إنها ومن خلال سرعة التقاطها لإشارات بث وإعادة تحويلها ما يسمح بالمواكبة الحينية للحدث وبذلك تحولت من مجرد قناة تواصلية بين الباث والمتقبل، أي الوظيفية البنيوية للغة أي إلى منجز ومساهم في صناعة وبناء ما يجري من أحداث في التاريخ، فالأقمار الصناعية المنتشرة في كل مكان من سماء المتلقي تسمح بالنقل والإرسال، فمساحة البث في علاقتها بزمن وقوع الحدث وهو أمر كرونولوجيا قد لا يصدقه منطق الإنسان العادي ولكنه في حقيقة الأمر هو واقع متحقق.
الفضائيات فعلا لم تعد مجرد قناة ناقلة بل مستثمر في الخبر الذي تتعدد وجهات النظر إليه وتتنوع لدرجة تمس جوهره وماهيته كصورة واصلة للمتلقي، فالخبر في مجال المشهد السمعي البصري هو مادة للاستثمار الإعلامي والفضائي منذ أواسط القرن الماضي ومع مردوخ وغيره تحولت إلى صناعة في الخبر صناعة تجعل المادة الإخبارية زئبقية تتشكل كما صلصال الخلق من قناة إلى أخرى حسب الخط الإعلامي والتحريري المخصوص لكل قناة وحسب مصالح الأطراف والكيانات المؤثرة في قرارها الإخباري سواء كانت شركات أو دول، بل أصبحت المادة الإخبارية بارود سلاح إعلامي في حرب تخوضها القنوات الفضائية في مختلف أرجاء العالم بالوكالة. هذه الحرب التي تعتبر الوقائع التي يتم رصدها مجرد أداة في معاركها المستمرة بغاية كسب الحرب، كيف لا وهي توجه قاعدة مشاهديها وتحدد اختياراتهم بما تنجزه من تأثير بالصوت والصورة والأحداث والتحاليل، فالقنوات الفضائية عمومًا صارت المؤثر الأول في انتخابات الدول بل وهي الأداة الحقيقية والشريك الإستراتيجي لشركات التأثير والتي أحيانًا تطلق على نفسها شركات العلاقات العامة وهي في الحقيقة تعرف أكثر بتسمية اللوبينغ.
الفضائيات عمومًا على وجه الخصوص لم تعد عاكسة للمعنى كالمرآة الشفافة بل صانعة لعالم جديد يكون كل أطراف المعادلة فيه أرقامًا في دراسة الجدوى المالية لها إنها في الظاهر استثمار في المعلومة وفي حقيقة الأمر وجوهره استثمار في العالم والحياة والإنسان بكل أوجهه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والرياضية حتى أن أحدهم قال «في القنوات الفضائية أستمع لما لا يقولونه لأعرف حقيقة ما يجري».
وهنا يحضرني مشهد عشته وبقي جزء من ذاكرتي ويعود لسنة 2007 وتحديدًا بفضاء مهرجان صفاقس التونسية الدولي حيث كانت مأساة ستار أكاديمي والتي راح ضحيتها 7 شبان في مقتبل العمر من جمهور كان ضحية سوء التنظيم، في الحقيقة وقوع المأساء كان نتيجة التدافع الناجم على هفوة تنظيمية بدائية يتمثل في خروج النجوم ساعتها قبل أن يصل الجمهور إلى مقاعدهم مع إطفاء فجئي لأنوار الجمهور وإنارة أضواء المسرح القوية التي تعطل رؤية المحيط القريب للمشاهد تمامًا، مما نتج عنه تدافع وسقوط عدد منهم خاصة وأن فضاء المسرح الصيفي بصفاقس في شكل مدرج فهبة الجمهور للفنانين لحظة رؤيتهم أحدثت المأساة وليس شيئًا آخر، ولكن ما جعل الحادثة كارثية على المستوى العام هو أنه وساعة المتفرجين ما زالو في أرض المهرجان وتسعون بالمائة منهم لم يتفطنوا لحادثة التدافع قناة فضائية في دولة أخرى تصدر خبرًا عاجلاً يفيد أن سقوط جدار المهرجان على المتفرجين أدى لهلاك مئات المشاهدين، ورغم وجود وسائل االتواصل من جوالات وغيرها إلا أن صعوبة البث ساعتها ورداءة شبكة الاتصال جعلت حالة من الهلع خارج المهرجان كانت قادرة على تهديد الأمن والسلم الاجتماعيين.
في الحقيقة تلك القناة استثمرت خبرًا أصبغته بهالة أكثر مأساوية إن لم نقل كارثية وضمنت نسب مشاهدة جد عالية تستثمر في استقطاب ما لذَّ من مستشهرين وغيرهم وزرعت حالة من الدراما المضاعفة، وهو كان من أسباب تعطل التعامل مع حالات الاختناق لدى الضحايا بحكم الوضع العام وهجوم الأهالي في حالة ذعر وهستيريا لأن ما حصل في حقيقة المشهد وكنت هناك بحكم مسؤوليتي ساعتها ولكن المأساة كانت خارج المسرح الناتجح عن هلع الآلاف من الأهالي لم يكن أقل مأساوية مما حدث بالفعل، حيث إن الإهالي كانوا ثائرين ومستعدين لكل شيء، كيف لا وتلك القناة أعلمتهم أن الجمهور تحت ركام الجدار.
الفضائيات أصبحت أكثر سطوة وتحللت شيئًا ما من لائحة القيم، ولا يمكن هنا أن ننكر أنه في مجال التفاعل مع الأحداث لم تعد الفضائيات لوحدها في التأثير لأنها ليست وحدها في المشهد الإعلامي من حيث صناعة الحدث والاستثمار فيه وتوظيفه فالإعلام المكتوب بالرغم من سطوة الإعلام المرئي والإعلام الافتراضي، ما زال فاعلاً ومؤثرًا جدًا، وهنا تقف قضية إمبراطور الإعلام روبرت موردوخ والمعروفة بقضية التنصت التي عصفت بصحيفة «نيوز اوف ذا وورلد» أي أخبار العالم، وهي قضية تنصت من العيار الثقيل على مكالمات هاتفية لضحايا قتل وإرهاب وذوي قتلى حروب، وكلها تم استثمارها كمادة إخبارية مؤثرة على الأشخاص والمجتمع والسياسات. هذه الحادثة والتي وإن توقفت بعدها هذه الجريدة عن الصدور بعد 168 عامًا من التأثير فإن العقل المردوخي المستثمر في الألم ما زال أكثر تأثيرًا بل فاعلاً في سياسات دول عظمى مثل أمريكا وبريطانيا وغيرهما لا يحصى ولا يعد حتى أن ابنة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب قالت من يريد البيت الأبيض عليه الجلوس مع روبرت موردوخ.
هذا وغيره انعكس ولو بشكل جزئي على الإعلام العربي وعلى مشهد الإعلام المرئي العربي على وجه الخصوص، فالإستثمارات المردوخية وماشابهها في الإعلام الخاص موجودة بشكل مباشر في سياق ما تتيحه سلاسة العملية الاستثمارية في مجال الإعلام، وأحيانًا عبر استحواذ جزئي، وهنا جدير بالملاحظة أن الإعلام المرئي العربي شهد طفرة نوعية من حيث الأرقام وهذا قلناه آنفا ونعيده..الفضائيات التي لم تكن في تسعينيات القرن الماضي تتجاوز الثلاثين قناة لتصبح الآن أكثر من 1400 قناة، علمًا بأن إحصاء اتحاد إذاعات الدول العربية غير المحدث يراها 1394 قناة فقط دون اعتبار للقنوات الأجنبية الناطقة باللغة العربية والتي تقدم للعالم العربي من دول عديدة تستهدف المشاهد العربي، لعل من بينها BBCوفرنسا 24وRAI العربية الإيطالية وروسيا اليوم وقناة الصين الشعبية وكوريا الجنوبية وغيرها القنوات العربية والتي تقدم ما يزيد عن 25 ألف ساعة بث يومية. هذا وتستقب مجالات مشاهدة عالية جدًا وباستثمارات تفوق أحيانًا ميزانيات بعض الدول الفقيرة جديرة بأن ينظر إليها بعين المتأمل..
فلو نظرنا إلى مشهد الفضائيات العربية من خارج الصندوق نجدها أولا تجارب ناجمة عن رغبة خارجة عن دائرة أفق انتظارات الجمهور في شتى المجالات كالسياسة والاجتماع والثقافة والاقتصاد وغيرها وتوفرت بمجرد امتلاك كيانات ودول لباقات أتاحها امتلاكها لأقمار صناعية وغيرها، كما أن هذا وفر أرضية لاستثمار دول وكيانات يراه البعض استثمارًا سياديًا للترويج للدول تنمويًا وسياسيًا إلى غير ذلك، وهذا كما نرى فيه من الإيجابي الذي يعطي صورة ذهنية وتسويقًا سياحيًا فاعلاً ومؤثرًا وفيه من السلبي بما هو تلميع إلى حد تصبح فيه هذه القنوات أبواق دعاية لطرف حاكم، وهنا يحضرنا النموذخ التركي الذي استقطب لفترة قنوات فضائية عربية قصد الضغط على الدول العربية بقنوات إخوانية ولم يكن ذلك بغايات إعلامية بحتة وإنما لأسباب براغماتية انتهت بنهاية أسبابها وتبدل المصالح والدليل إغلاقها بعد تعديل أوتار السياسة الخارجية التركية.
وثانيًا عباراة عن مغامرات في مجال الاستثمار الإعلامي الخاص الذي رسالته الإعلامية الوحيدة هو كسب المال وتغطية المصاريف على الأقل والسقوط تحت ضغوطات الرعاة والمستشهرين كانوا من كانو أو هو ما أدى بالعديد منهم إلى السبل الرخيصة في كسب المال وهو ما حصل مع نبيل القروي صاحب قناة نسمة وسامي الفهري في قناة الحوار التونسي مما أودى بهما إلى المطالبات والسجون.
وثالثًا نتيجة رغبة من عديد الأطراف في بناء كيانات إعلامية على شاكلة BBCأوالCNN في العالم العربي وفعلاً كان ذلك ووجدت عشرات الفضائيات الإخبارية والتي كثير منها بلا رائحة أو طعم إما عبارة عن نسخ حيني لما تقدمه الفضائيات المرجع أو مساحة للسباب والشتم وتصفية حسابات كيانات تجاه كيانات أخرى بقنوات ومجاري إخبارية غير احترافية غايتها كسب كم من المشاهدات وخلق «البوز»، وهو المشاكل المفتعلة للإثارة وجلب الاهتمام بأقل التكاليف.
رابعًا.. يستوقفنا في كل ذلك الرأس مال الحقيقي للعملية الإعلامية ونعني به الصحفي الذي منهم من يخوض مغامرات دنكيشوتية ويبني ملاحم مهنية تسجل في الذاكرة والتاريخ، وهم قلة تحولت أسماؤهم إلى نفوذ يخفف من وطأة الأوامر الإدارية الصباحية والمسائية التي في غالب الأحيان لا تكون مهنية بقدر ما هي خطوط حمراء وممنوعات يذكر بها في كل حين وآن كما أن هناك من انكسرت إبداعاتهم على صخرة الروتين والعمل اليومي والخوف من الخطأ، وحدث ولا حرج عن الموظفين الذين يحشرون في كل يوم وحين في المشهد، هذا أوصى به فلان وذاك ممنوع من اللمس وهلمَّ جرًا، وهؤلاء ليسوا مجرد أعباء على العمل الإعلامي بل عوائق إيبستيمية في طريق التطور والنجاح لكل كيان إعلامي، لأن المفرغ من الإبداع في مجال علم النفس يعتبر مصابًا بعقدة قتل الأب، أي يعادي كل مبدع ويحاربه لأنه يحرجه، ما هو مفقود عنده علمًا أن تجربتي المتواضعة في مجال الإعلام علمتني أن هذا الصنف هو الأقدر على الاستمرار والثبات الوظيفي والأقدر على إرضاء المديرين، فتجد الإعلامي الجيد والذي استثمرت في إنتاجه دول عديدة يتحول إلى موظف ركيك بلا طموح ولا هم له إلا الأمان الوظيفي، حتى أن الخوف من الخطأ يتحول إلى وسوسة وتجد بعض القيادات السياسية الواعدة في العالم العربي تطمح لجيل من الإعلاميين المستنيرين في مشهد الفضائيات والحال أن الإعلاميين المقصودين بالإصلاح لا يريدون أن يكونوا كذلك في بعض الأحيان لفرط الخوف من الخطأ من جهة ولأن وضعهم الراهن كفيل بضمان قوت جيد مع ما يستثمرونه من حظوة اجتماعية، وفي الغالب مادية نتيجة الظهور الإعلامي والشهرة والبروز من جهة أخرى.
تناقص منسوب الإبداع في عدد مهم من الفضائيات العربية جعل ظاهرة مشاهيرالسوشل ميديا الذين وبالرغم محدودية إمكانيتهم المادية لحظة التأسيس استطاعوا افتكاك نسب إعجاب ومشاركة تفوق أحيانا بعض هذه القنوات المتعوب عليها، بل وصارت هذه القنوات تستنجد بهؤلاء المشاهير للترفيع في نسب المشاهدة دون أن تشكِّل خلية تفكير لمعرفة الأسباب التي من بينها أن جيل الشباب لم يجد الصدق الذي يبحث عنه حتى في مستوى الحد الأدنى البسيط، وهو ما وجده في هذه المنصات بالرغم من أن المقدم عادي جدًا عند مشاهير التواصل الاجتماعي في أغلب الأحيان إلا أنه يشبه ما يريده هذا الجيل الذي يريد شيئًا يشبهه، وكأن هذه الفضائيات غير معنية بدراسة علم اجتماع التقبل ومعرفة الحاجات الاستهلاكية لدى المتقبل، بل وتجد هذه القنوات لا تهتم حتى في صمتها في التفكير في استعادة الطاقة الجماهيرية وقوة المشاهدة خارج الأرقام الوهمية التي ترضي غرورها وتضعها بعيدة على النظر إلى نفسها بصدق والتي قد تشترى عبر كيانات التسويق الإلكتروني.
الفضائيات العربية وعلى تنوعها وكثرتها قدمت مشهدًا فيه الكثير من النقاط الوضاءة خاصة في مجال رفاه المشاهدة وتطور الصورة وترف التجهيزات والإمكانات المادية وروعة الاستوديوهات التي تفوق أحيانًا موازنات بعض الدول، كما قدمت بعض النماذج البراقة في جوانب يمكن اعتبارها قطرة ضوء في قاع العتمة ونعني بذلك بعض القنوات التي تعد بالكثير الكثير فقط لو فكرت في الاستثمار الحقيقي في المجال السمعي البصري وصناعة المحتويات والقوالب الإعلامية الناجحة وصناعة الأخبار وتوزيعها عالميًا، إضافة إلى توسيع طاقة مشاهدتها بدبلجة فورية بلغة أولغات حية للبرامج ذات البصمة. وهذا يتطلب جهودًا هي في الحقيقة الحد الأدنى من الجهد في عتبة العمل الإعلامي المنافس في مشهد التنافس لأن من لا يتقدم ويبقي على حاله فقد تأخر، وتلك هي سنة الوجود، فالعمل بلا تخطيط تخطيط للفشل.