وأخيرا لاح ما قد يكشف سر البراق وليلاه وغموضهما، إذ صدر ديوان البراق بن روحان محققا، من مؤسسة موثوقة هي (جائزة عبد العزيز سعود البابطين، مركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية). وسعيت للحصول على الديوان المذكور حتى اقتنيته من جناح مؤسسة البابطين في معرض القاهرة الدولي للكتاب في يوليو 2021. ألفيت الديوان - الذي حققه الباحث بمركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية الدكتور أحمد عطية - يضم تسعا وعشرين قصيدة ومقطوعة. بعضها أوردها شيخو في كتابه، إلا أن شيخو انفرد بقصيدة عينية، مطلعها:
أقول لنفسي مرة بعد مرة وسمر القنا في الحي لا شك تلمع
كما انفرد في كتابه الآخر (مجاني الأدب في حدائق العرب) بالأبيات التالية التي لم ترد في شعراء النصرانية، ولا في ديوان البراق المحقق:
يا طالب الأمر لا يعطـى أمانيه
استعمل الصبر فيما كنت تبغيه
والبس لسرك ما تخفيـه مجتهدا
والبس عفافـك فيما كنت تبغيه
فصاحب الصدق يجني صدقه حسنا وصاحب الشر سوء الشر يجنيه
والغريب أنّ لويسَ ذكر في (مجاني الأدب) أن البراق توفي سنة 525 م، في حين أنه ذكر في (شعراء النصرانية) أن وفاته كانت سنة 470 م.
وقد أشار محقق ديوان البراق إلى إغفال المصادر الأدبية والتاريخية له، فقال: «سكتت عنه معظم كتب التراجم والأخبار، ولم نجد له ذكرا إلا في العصر الحديث عند الزركلي ولويس شيخو؛ إن صح الأخذ عنه».
وللدكتور أحمد عطية الحق في عدم الوثوق بلويس شيخو، فله منتقدوه بين الباحثين والمحققين حتى من بني جلدته. يقول مارون عبود عن لويس شيخو متهكما: «وإذا كل من عرفناهم من شعراء جاهليين قد خرجوا من تحت سن قلمه نصارى. كان التعميد بالماء فإذا به قد صار بالحبر».
ويقول في موضع آخر: «ولولا تعصبه لدينه ذلك التعصب العنيف لأجمع الناس على تقديره، ولم يختلف في تقديمه أحد على كل من تقدموه من الأحياء في نشر كل جديد وجّهَ النشءَ أصدق توجيه فني».
ورجوتُ أن تغنينا مصادر الدكتور عطية عن الاعتماد على مصادر شيخو المشوشة، لكن المحقق خيب أملي حين وجدته يورد ترجمة البراق نقلا عن الزركلي؛ الذي اعتمد في ترجمته اعتمادا كليا على شيخو.
ثم وجدت عطية يذكر في مقدمة تحقيقه للديوان أنه استخلص مادته من مخطوطة كان قد حققها، وحصل بتحقيقه ذاك على درجة الماجستير من كلية دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1434/2013 وأصدره في كتاب بعنوان (الجمهرة في أيام العرب) للحافظ عمر بن شبة البصري (ت 262) عن مكتبة الإمام البخاري للنشر والتوزيع بالإسماعيلية سنة 2015/1436 وهنا اتجهتُ ببوصلة البحث لكتاب الجمهرة هذا، لأن الديوان مستخلص منه.
ويعلل المحقق وقوف شيخو على ترجمة البراق وأخباره بأن «لويس شيخو ربما يكون قد اطلع على كتاب الجمهرة في نسخته الخطية؛ خاصة أنه ذكر في بعض المواطن من كتابه أن من ضمن مصادره التي يستقي منها مادته مجموع خطي قديم». لكن المتأمل في كتاب الجمهرة لا يجد فيه ترجمة للبراق، وإنما أخبار وأشعار.
ولنستعرض الآن كتاب الجمهرة هذا، ونقف على مخطوطاته التي اعتمد عليها المحقق وأين عثر عليها. اعتمد المحقق على نسختين محفوظتين في دار الكتب المصرية، الأولى تحت رقم (1194 أدب) وفي نهايتها جزء من جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي. وذُكر في آخرها تاريخ نسخها وهو سنة 1131 هـ وعنوان الغلاف (كتاب الجمهرة تأليف عمر بن شبة) وفي نهاية الكتاب «انتهى ما وجد من سيرة الجمهرة»، ويتفق عنوان الكتاب مع بطاقة فهرسة دار الكتب، وقد بلغ عدد الأوراق (199) بعد إضافة الجزء الملحق من جمهرة أشعار العرب للقرشي.
والثانية تحت رقم (6375 أدب) جيدة ومشكولة، وبها آثار رطوبة وطمس في بعض المواضع. وقد ورد في نهايتها: «تم ما وجد من جمهرة العرب وأيامها برسم عبدالله بن هشام الدلنجاوي. أما عنوانها في بطاقة فهرسة دار الكتب فهو (جمهرة أشعار العرب) والمؤلف (أبو زيد عمر البصري).
ويتساءل د. أحمد عطية عن السبب الذي جعل مفهرس دار الكتب المصرية يسمي المخطوط بغير اسمه، فيقول: «وليس هناك تفسير لهذا الأمر إلا أن المفهرس نظر في آخر المخطوطة فوجد أن المؤلف أو الناسخ ذكر في نهايتها: تم ما وجد من جمهرة العرب وأيامها، ثم نظر في المتن فوجده يحوي العديد من الأشعار، فحاول التوفيق بين الأمرين، فقال: إن الكتاب هو (جمهرة أشعار العرب) خصوصا أن هذا العنوان تردد كثيرا في التراث العربي، أو لعل المفهرس قارن بين هذا المتن بمتن نسخة أخرى؛ وهي النسخة (أ) التي يتبعها جزء من كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي ... فتصور خطأ أن كل ما جاء في النسخة الأولى عبارة عن جزء واحد».
ولا أدري كيف يجيز المحقق القدير لنفسه معاتبة المفهرس لتغييره عنوان المخطوطة، في حين أنه - نفسَه- قد غير عنوانها، ولم يلتزم بالعنوان الذي وجده مكتوبا على الصفحة الأولى من النسخة (أ) التي اعتمدها! فقد أضاف إلى اسمها المعروف: (الجمهرة) شبه الجملة (في أيام العرب) معللا ذلك بأن هذا الاسم يناسب المحتوى، إذ تضم المخطوطة كثيرا من مواقع العرب وأيامها، فضلا عن أن العنوان قد جاء في أحد المواطن باسم (جمهرة العرب وأيامها).
ولم تذكر معاجم المؤلفات، ولا كتب التراجم التي ترجمت لعمر بن شبة كتاب الجمهرة من ضمن مؤلفاته؛ غير أن مرجعيْن حديثين هما تاريخ التراث العربي لسيزكين، والأعلام للزركلي ذكرا أن له كتابا بعنوان (جمهرة أشعار العرب). وقد يكونان وقعا في هذا اللبس بسبب خطأ مفهرس دار الكتب المصرية لإحدى مخطوطتي الكتاب كما تقدم.
ويعلل محقق الكتاب قلة نسخ المخطوط، وعدم ورود ذكر له في كتب الأقدمين بما أورده صاحب خزانة بغداد من أن عمر بن شبة قد تعرض لمحنة خلق القرآن، وأحرقت بسبب ذلك كتبه».
(وللحديث صلة)
** **
- سعد عبدالله الغريبي