إنَّ الدّخول إلى فضاء عبارة الفيلسوف والنَّاقد المجري جورج لوكاتش الواصفة بأنّ «الرواية ابنة المدينة» بقراءة باترة وناقصة لمّا يكمّلها، دون استصحاب السّياق الذي قيلت فيه، ويتركها متأرجحة بغير جذور منطقيّة، تنتاشها حزمة من سهام الأسئلة الباحثة عن توصيف لماهية (المدينة) هذه؛ ما إذا كانت تحديدًا جغرافيًّا، أم سلوكًا يعود إلى أفراد يستوطنون المدينة نفسها، ثمّ ما عساه يكون الفرق ما بين المدينة والقرية بالنّظر إلى الرواية كمنتج إنساني، وما الذي يجعل القرية -بوصفها المناظر العكسي للمدينة- عاجزة عن إنتاج الرواية..
مثل هذه التّساؤلات= الرّؤى من البدهي أن تكون حاضرة لو قرأنا عبارة لوكاتش بنصف عين، وغضضنا الطّرف عن الجزء الآخر منها، الذي لو اطّلعنا عليه، مستصحبين خلفية جورج الماركسيّة، لوجدنا أنّنا أمام توصيف قائم بشروط محدّدة، وسياقات مشروطة، ما يجعل من أمر مناقشتها موضوعًا قابلاً للحدوث وفق إطارٍ متزن نوعًا ما.
فمن غير الخافي أنّ لوكاتش قد نظر فيما قدّمه الفيلسوف الألماني هيجل من تنظير سابق في مجال الرّواية، آخذين بعين الاعتبار أنّ هيجل نفسه يعتبر الرائد الأولى لنظريّة الرواية في الغرب من خلال رؤية فلسفيّة جماليّة مثاليّة مطلقة؛ فضلاً عن التّنظير الروائي بربط شكل الرواية ومضمونها بالتحوّلات التي عرفها المجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر الميلادي.
إنّ تنظير جورج لوكاتش للرواية جاء مستقيمًا -ومخالفًا في الوقت عينه لمنطقه المثالي- لكثير من تصوّرات أستاذه هيجل للفن الروائي، معتمدًا في تصوّراته على الماديّة الجدليّة الماركسيّة في فهم المجتمع الرأسمالي وتفسير تناقضاته، وإن ألحّ على غرار هيجل بكون وجود الرواية مرتبط بالانتقال من الإقطاعيّة التي طوّرت الفنّ الملحمي إلى الرأسمالي= البرجوازي التي أوجدت لها فنًا متميّزًا هو الفن الروائي، مستندين في هذا الزعم إلى كتاب لوكاتش «الرواية كملحمة برجوازية».
فالمطّلع على هذا الكتاب يقبل -بصورة من صور القبول- ما استند عليه لوكاتش من منطلقات تستند رؤيته القائلة إنّ «الرواية ابنة المدينة»، حيث بدأت في الانطلاق من بُناتها كفنٍّ أدبي وتمّ توطينها على ذلك، حتى وإن انتقلت بداخلها التفاصيل من حيز إلى آخر (أي من نمط تصوير البرجوازييّن/ الرومانسيّة إلى البروليتاريين/ الواقعية)، وتجاوزت بمحتواها إلى خارج أسوار المدن التي تمخَّضت عنها، الأمر الذي نراه برمّته في أنّ المعني به هو أنّ الرواية أساسًا أُنجبت من أُمٍّ تدعى المدينة ممثَّلة في الطّبقة البرجوازيّة المستحدثة لهذا الفنّ الملتبس في كلّ منحىً به وحوله، بدءًا بتعريفه= مفهومه، وليس انتهاءً بقوانينه، أو هكذا ينبغي أن يكون.
وهو أمر يحمل وجاهة إذا قرأناه بالفهم المتوارث والكامن في المصطلحين «المدينة= الحضارة، القرية= البداوة» على اعتبار أنّهما المظاهر المتمّمة لوجودهما على سطح الكون، في التَّفاعلات الحادثة بأي منهما، ففيما تنحو المدينة إلى جهة الحضارة والاستقرار، بينما تمور القرية في مدّ نمط البداوة على جسور تفاصيل الحياة القلقة التي تضج في جنباتها المتباينة إذا صحّت العبارة.
على أنّ الصّورة التي نرسمها للمدينة والقرية على النَّحو المستند إلى تباين السّلوك الإنساني في كليهما، وأفضت إلى قبول مقولة لوكاتش آنفة الذّكر، تبدو في الوقت الحاضر موضع شكّ إن لم نقل منسوفة بالكليّة، فالشّاهد أنّ المسافة ما بين المدينة والقرية ما عادت بذات المسافة الشّاسعة التي كانت قديمًا.
فالقرية -حاضرًا- انتهت إلى الذّوبان في المدينة إذا نظرت إلى تحضّر السّلوك البدوي، والمدينة اتّجهت صوب القرية إذا يممت إلى ما يحدث ما يمكن تسميته بـ»أريفة المدن».
وعلى هذا؛ فإنّ الحدّ الذي كان قائمًا على نحو يشكّل تمايزًا لا لبس فيه أصبح واهيًا وساقطًا ومتماهيًا في الآن، بحيث يصعب التّفريق بينهما.. وعلى هذا الأساس فمن المهم أن نضع مقولة لوكاتش في سياقها الذي نُحتت فيه وجادت به، ولا نستدعيها كما لو كانت نصًّا مقدسًا قابلاً لعبور الزَّمن والحضور بذات طاقته التَّوصيفيّة في المشهد الآني، فليست «الرواية ابنة المدينة» اليوم، لا على المستوى الجغرافي، ولا على مستوى انتماء الشُّخوص المنتمية لها، أو حتى على مستوى الأفكار المعبِّرة عنها، والمناقشة لها.
إنّ الصّورة ربّما تبدو أكثر وضوحًا إذا نظرنا إلى أنّ «الرواية ملحمة ذاتية يتخذ فيها المؤلف حرية تصوير العالم على طريقته. وكل ما في الأمر أن نعرف هل له طريقة خاصة به. أما ما تبقى فيمضي دائمًا من تلقاء نفسه»(1).
ولعلّ من المناسب استجلاء القرية في المشهد الروائي العربي والمحلي، لنضمن نوعًا ما بطلان مقولة لوكاتش إذا أخرجناها من سياقها الذي قيلت فيه؛ وهذا هو فحوى مقال الأسبوع المقبل -بمشيئة الله-.
... ... ... ... ...
(1) ر.م. البيريس، تاريخ الرواية الحديثة، ط2، ترجمة جورج سالم، (دار عويدات: بيروت، 1982م)، ص:468.
** **
- د. ساري بن محمد الزهراني