يا لها من مغامرة ويا لها من شجاعة!!
أن يفكر «كاتبٌ شاب» -ما زال يطارد الكلمات الخائفة والقصائد الهاربة كما يطارد الطفل الصغير في حقول القرية وجبالها المغمورة بالثلج والضباب والمطر, الفراشات الملونة والعصافير الذهبية-, في أن يتسلق سلم الكتابة المهيب ويكتب عن «أسطورة ثقافية» تناولت سيرته الثقافية مئات الأقلام، وقدمت عنه الدراسات والمقالات..
الشاب: أنا
الأسطورة الثقافية: الدكتور عبدالله الغذامي.
وليعذرني (أبو غادة)
فأنا أحد أبناء القرية الذين يقررون في ساعة قهوة؛ المغامرة والقفز من نافذة الغيم نحو الورد مهما كانت المخاطر!..
في مجالسنا القديمة -يا أبا غادة-، تلك المجالس التي تطل على السماء شربنا مع القهوة الشقراء قصائد أشعلت الكلمات في أذهاننا وتحولت إلى نظريات، أشهرها: «اضرب على الكايد ليا صرت بحلان»..
هذه النظرية البدوية وهي نظرية «ابن رشيد الشمري» دفعت عددًا من أصدقائي لاتخاذ قرارات مصيرية في حياتهم!!
أما أنا فدائمًا تتأرجح قرارتي بين حبال الشعر المتعددة وبين «اضرب على الكايد ليا صرت بحلان» و»إذا هبت رياحك فاغتنمها»..
وها أنا (أضرب على الكايد) و(أغتنم رياحي..) بعد أن قررت أن أحول تغريدة تدور في ذهني إلى مقالة:
ولكن كيف أبدأ؟ وكيف أنتهي؟ وكيف أكتب مقالة فيها رائحة مطر ونسمة عشب ونفحة شعر, عمن ترك الشعر بأكمله؛ لأنه لا يرضى بأنصاف القصيدة..
قبل ساعة من كتابتي لهذا المقال سمعت في «دردشة إذاعية» سؤالًا وجهه المذيع للضيف:
«إذا كان يحق لنا أن ندخل الفنان محمد عبده في إطار الصورة مع عمالقة الموسيقى والطرب (أم كلثوم, وعبدالحليم, وعبدالوهاب, والسنباطي وبليغ..)، مَنْ مِنْ المثقفين السعوديين -بنظرك- يحق لنا أن ندخله في إطار الصورة الأخرى مع عمالقة الفكر والثقافة والأدب (طه حسين, والعقاد, توفيق الحكيم, ونجيب محفوظ..)؟».
وقبل أن أسمع إجابة الضيف تخيلت أن هذا السؤال وجه لي!! فأتى في ذهني وفي ومضة برق ضخمة (عبدالله الغذامي) بهيبته وبصوته وبنظارته وبقلمه وبكتبه وبتاريخه الثقافي العريق.. هذه مكانته في ذهني وفي قلبي، وعند من أعرف من أصدقائي..
وحتى لا أقلل من نفسي ومن محاولة (الكاتب الشاب) أزعم أنني قرأت معظم كتب (الأسطورة) من (الخطيئة والتكفير) إلى كتبه الثلاثة الأخيرة: (القلب المؤمن, العقل المؤمن, مآلات الفلسفة), وشاهدت معظم مقابلاته التلفزيونية ومحاضراته التي وجدتها في اليوتيوب..
يذهلني هذا العبقري بـ(ذهنه المتوقد) الذي تسبب -كما قال في محاضرته الأخيرة- في معاناته مع الأرق!!
ويدهشني بقدرته الواسعة على الربط والتحليل والاستحضار وإشعال الأسئلة, ويعجبني باستثماره الوقت واحترامه كل ثانية من وقته، ومما يدل على هذا الإنتاج الوفير, وهذه اللافتة الخفيفة التي يرفعها في «تويتر» كل مساء «الثامنة حدي» فهذه ليست رسمًا حرفيًا إنما منهجًا مترجَمًا لضبط الوقت وثبات الموقف!
وكأنه هنا في ضبط الوقت والالتزام يريد أن يحذرنا وبشكل غير مباشر من مسلك (المثقف الفوضوي) الذي لا يفرق بين النهار والليل!، ويدلنا على النظام الذي اختاره (المثقف المنتج, والمبدع الجاد) هو وغازي القصيبي وكذلك نجيب محفوظ، الذي قيل إن الأمر وصل به إلى ترك الكلمة الواحدة في منتصفها, متى ما دقت ساعة الانتهاء من العمل الكتابي.
أعود للتغريدة التي قدحت في ذهني على هيئة (سؤال وجواب) وتحولت إلى هذا المقال:
غير (الثراء المعرفي) و(البراعة في التنظير) و(الغزارة في الإنتاج) و(المرونة الفكرية) و(الكاريزما الثقافية -إن صح الوصف-)..
ما الميزة التي يتميز بها الدكتور: عبد الله الغذامي؟!
التجدد.. التجدد.. التجدد..
في دردشة عابرة مع المثقف الرائع «الدكتور عبدالمحسن العقيلي» قبل تقديمه المحاضرة التي أقيمت في مكتبة الملك عبد العزيز بتاريخ 18-3-1443هـ, تبادلنا كلمات الإعجاب عن هذا الرمز واتفقنا على ميزة (التجدد) التي يتميز بها وأضاف تخيل الذي سأقدم محاضرته هذا المساء بموضوعها المعقد وعنوانها الكبير: «الفلسفة والمفاهيم الكبرى» كان نقاشه الأخير في «تويتر» مع المغردين عن السمك!!
وكأنه أراد أن يقول: انتبه لهذه المزيّة, مزيّة المثقف الكبير الذي يخرج من البرج الذهبي, وهو بكامل وقاره النخبوي ويتجه نحو الحارة الشعبية ويجالس البسطاء ويتناول معهم الشاي والفول والتميس ويتداول معهم الأحاديث العفوية, ثم يعود إلى برجه الذهبي يقرأ ويدوّن ويبحث ويتأمل ثمّ يصدر أسفارًا «يَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ»!.
هذه التغريدة أو هذه المقالة هي في الحقيقة ليست عن الغذامي, بل هي نصيحة «للمبدع الشاب» الذي اتجه به القدر نحو البحر الثقافي والمعرفي، ووجد في ذلك البحر متعته وعمله ليتأمل مسيرة «قدوة ثقافية» يطل عليه من السماء ويتجدد وهجه الذهبي مع مرور الأيام..
عبدالله الغذامي في دنيا العلوم والمعارف وعالم الثقافة والأدب.. يشبه الصقر الذي يحلق من قمة إلى قمة, يبحث بعين لماحة عن الصيد المختلف فهو لا يرضى بنوع واحد من الطيور..
طار بجناحي العلم والثقافة من (النقد الأدبي) إلى (النقد الثقافي) ومن (الحداثة )إلى (ما بعد الحداثة).. وترك باب القصيدة ليدخل عليها من باب آخر وبكل شجاعة وثقة, قالها في وقتها بوضوح: «لو ظللت على حالي أقرع باب القصيدة مبدعًا لما فتح النص لي أبوابه».
في سلسلة مقالات الشاعر والناقد الألمعي الدكتور: سامي العجلان عن الغذامي التي نشرتها الجزيرة الثقافية, يقول:
«ثلاث مرات على الأقل كان الغذامي فيها هو رجل اللحظة الخالدة، أو مثقف الشرط التاريخي؛ حيث دفعه حس الاستبصار المبكّر بالخطوة القادمة للتاريخ والثقافة إلى أن يصدر كتابًا أو يتخذ موقفًا في أنسب وقت لصدوره، وهو الوقت الذي يبدو فيه أن الأوضاع تتهيأ لاتخاذ مسار جديد؛ لكنّ حدود هذا المسار الجديد لم تتضح بعد، فيأتي الكتاب أو الإعلان الثقافي ليسهم بقدر كبير في رسم هذه الحدود...».
وفي نفس هذه السلسلة التي لم تخلُ من (لسعات النقاد) وقسوتهم ونقدهم ودقتهم؛ ولكنها تدل على لغة «الناقد الحقيقي» وكيف يقرأ الناقد الناقد, يقول الدكتور سامي العجلان:
«تفاخر نزار قباني ذات قصيدة بأن الشعر قد استحال على يديه إلى خبز ساخن.. ماذا عن حال النقد مع عبدالله الغذامي؟ لا نبعد في القول إذا قلنا: إن النقد أضحى بين يديه طبقاً ساخناً مشبَعاً بالبهارات، ومليئاً بالمفاجآت..».
ماذا بقي؟
بقي: قُبلة وتغريدة.
القبلة: على جبين من أسقى أرواحنا بأمطار الثقافة والمعرفة وما زال يهطل.
التغريدة:
من هو عبدالله الغذامي؟
عبدالله الغذامي: نعمة تستحق الشكر.
** **
- عبدالعزيز بن علي النصافي