حاوره - محمد الهلال، محمد علي الموسى:
لماذا أنامْ
وجفنُ الظّلامْ
يحّدِثني عن أُمورٍ جِسامْ
يحّدِثني عن خلودِ الأملْ
على ساعدي كادح لا يملْ
تطل الحياة على فأُسِهِ
وتزهو وتشرق في غرسِهِ
أبيات من ديوان «قلق» للشاعر الراحل ناصر بوحيمد تختصر علينا الكثير من الحديث ونحن نقدم العلي الذي استمر بالكتابة على مدى ستين عامًا، لم يتوقف إلا مجبرًا، إما بسبب المرض أو بسبب ظرف قهري، ولكن حتى في تلك الأزمات كان العقل متعبًا بالتفكير، مشغولًا بهواجسه، بهمه المشترك مع الناس وكأن فترة التوقف الإجباري، ليست للراحة بل للتفكير والتأمل، بطريقة الكتابة، وترتيب الأفكار، هو لا يخاف من أحد، يقول ما يود قوله وبكل صراحة ووضوح، ما يقلقه دائمًا هو المجتمع، الناس، فهو يكتب من أجلهم ويحب أن يسمع صدى كتاباته ولديه مقياس وحيد يعتمد عليه هو الوعي، وكيف يتعامل المجتمع مع قضاياه اليومية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وما مدى تطور عقليته وبعده أو قربه من الموروث الاجتماعي أو الديني، لديه أمل دائم بالناس وهو ما يدفعه للكتابة رغم سنه المتقدم ومتاعب ذلك السن، من مرض وعزلة فهو يتنفس الكتابة كما يقول: وعندما يتوقف، تتوقف الحياة بالنسبة له.
- أخبارك؟
* أولًا مقيد لا أستطيع الخروج مرتبط بهذا الأكسجين، وثانيًا الوحدة صعبة جدًّا.
- أنت محظوظ أبا عادل لديك نوعان من الهواء: الأكسجين المشاع بيننا وبينك، والثاني الكتابة.
* هناك أناس لا يستطيعون العيش دون كتابة، أنا منهم.
- الكثيرون كتبوا عن الجانب الثقافي في حياة أبي عادل، ولكن ينقصهم جانب آخر ليفهم القارئ والمتلقي محمد العلي؛ ينقصهم الجانب الإنساني، تغيب الكثير من التفاصيل المهمة عنهم.
* ماذا تقصد بالجانب الإنساني؟
- علاقتك بمحيطك، زوجتك، أبنائك، علاقتك بعد رحيل زوجتك بالأشخاص الذين يخدمونك، وقبل ذلك، علاقتك بأمك وأبيك.
* صعبة أمي وأبوي.
- لماذا لم تعش معهم؟
* لا، كنت أعيش معهم.
- ألا تتذكر شيئًا من تلك الأيام؟
* أتذكر الكثير، ولكن، ما أتذكره لا أود قوله.
- لماذا؟!
- هناك حواريات بين نجيب محفوظ وجمال الغيطاني، من خلال تلك الحواريات التي أصبحت كتبًا، عرف القارئ الكثير عن نجيب محفوظ، ما أود قوله: قراءة تجربة العلي سوف تكون ناقصة، بسبب غياب أو تغيب الجانب الإنساني.
* أفهم ما تقصده، وسوف أحاول أن أتعرض لهذا الجانب، بدءًا من الأب والأم، إلى آخر المواليد.
- أنت ترفض أن تكتب مذكرات؟
* نعم صحيح، ولكن سوف أحاول، أعرفك كيف تصر، مثل غواص.
- نحن نتكلم بحب، ونرفض أن تشوَّه صورة الأشخاص الذين نحبهم.
* التشويه لا بد منه، هؤلاء هم البشر.
- أنا لا أقصد التشويه فأدب العلي يدافع عنه، لكن القراءة لتجربة الإنسان، سيكون فيها نقص، كبير، بسبب غياب الجانب الإنساني، القراءة الكاملة توضح بقراءة الإنسان من الداخل، قراءة يصل صداها للقارئ البسيط.
* السيرة الشخصية كتابتها صعبة جدًّا، العرب يستسهلونها، الغربيون ليس لديهم مانع، مثل أن يقول: أنا ابن حرام، أو مبتلى بكذا وكذا مرض، الغربي يقول، خذ مثلًا، جان جاك روسو، عظيم من عظماء التنوير، اقرأ سيرته تسب (أبوه وأبو من خلّفه)، ولكن الغربي هو هذا، العرب ليس لديهم تلك التركيبة، هناك أديب، ناقد مصري كبير، لا أود قول اسمه كتب مذكراته، وقال: أنا ضائع تربيت في ملجأ (لقيط)، ضجَّ أبناؤه، لماذا تقول هذا الكلام؟ اضطر أن يحذف هذا، العرب هكذا، أنا لست على وفاق مع أبي، اكتب أني لست على وفاق معه، سأقول، ولكن فعلًا أنا لست على وفاق معه، هذا شيء صعب، صعب جدًّا.
- لماذا أنت تحديدًا ذهبت للدراسة في النجف، لماذا لم يذهب أحد إخوتك؟
* لأني كنت الأكبر، فهو أخذ الأكبر.
- في حديث سابق معك قلت: لنا إن عمرك كان اثني عشر عامًا، كيف أهَّلك للسفر للنجف والدراسة؟
* هو يحب أن يهاجر إلى النجف عنده دافع ديني، وأخذني معه؛ لأكون شيخ دين، وفعلًا مشيت في هذا الطريق الديني زمنًا طويلًا، ولكن بعد ذلك رفضته.
- الوالد كم جلس معك بالعراق؟
* جلس معي قرابة سبع سنوات، إلى أن تزوجت ورجع إلى السعودية.
- في أي سن تزوجت؟
* تزوجت في النجف في سن السابعة عشرة
- وخلال سبع سنوات التي لازمك فيها لم ينزل للسعودية؟
* نزل لأنه متزوج اثنتين، يجلس بعض الوقت في العراق ويعود إلى السعودية.
- هل كانت أم عادل هي أول زوجة؟
* الأولى والأخيرة، هي ابنة السيد باقر الشخص.
- كيف كانت معك؟
* من أروع خلق الله، على الإطلاق، عائلة الشخص كبيرة بالأحساء والعراق، هي أفضل من أنجبت هذه القبيلة، لذلك أنا لست مثلك تزوجت اثنتين.
- هي لا بد أن تكون عظيمة؛ لأنها استطاعت أن تتحملك.
* قدرت تتحملني، أي والله، أنا ما كان يتحملني حتى الموت نفسه، ما يقدر يتحملني، كانت هائلة، يا أبا يوسف الحياة عجيبة.
- تتذكر مواقف لها؟
* كونها تحملتني هذا موقف يعادل كل المواقف، كانت ورائي في كل نقلة انتقلتها، كانت تؤيد، تأييدًا كاملًا، وتعدل أخلاقي إذا اعوججت، عظيمة يا رجل، لهذا لم أتزوج غيرها.
- وأنت كنت تسمع وتتقبل منها؟
* طبعًا.
- كيف كان فراقها، وأنت كيف عشت تلك الأيام؟
* كان أولادها يحيطون بها، ويصبرونها، ويصبرون أنفسهم.
- كيف استطعت تحمل المراحل الصعبة التي مررت بها، نحن إذا تتبعنا مسيرتك نقول: بيننا وبين أنفسنا هذا الرجل من أي شيء متكون، رغم ما أصابه ولا يزال يكتب ويتنفس!
* هذه إرادة، فالزمن إما أن يعلمك، وتصبح أكثر نضجًا، أو أن تخرج غاسلًا يدك من كل شيء، والظرف القاسي أما أن يقدّمك أو يؤخّرك لا يوجد وسط، ناس يخرجون غاسلين أيديهم من مبادئهم، أصلًا هذا المبدأ لم أستفد منه، وناس تخرج أكثر تمسكًا بمبادئها.
- ما هو الدافع الذي جعلك أكثر تمسكًا بمبدئك؟
* الإيمان بالمبدأ، عندي قناعة بأن هذا هو الصح، إذا اقتنعت بشيء صح أصر عليه، وإذا ما اقتنعت به خلاص أتركه، حياتي كلها هكذا.
- كنت مقتنعًا بشيء وتركته من قبل؟
- نعم
- ما هو؟
* كنت معجباً بالبعثيين، ولما وصلوا إلى الحكم ورأيت فعلهم بالناس تركتهم، صحيح أني لست حزبيًّا، ولست عضوًا، ولكن مؤيد، أنا لم انضم إلى حزب على الإطلاق.
- كي تخلع العمامة كم أخذت من الوقت؟
* لبست العمامة يمكن ثماني سنوات، وخلعتها عند عودتي للسعودية.
- كان الوالد على قيد الحياة عندما خلعت العمامة؟
* نعم موجود.
- كانت لديه ردة فعل؟
* لا؛ لأنه تركني، أساسًا غسل يده مني، ومنع عني المصروف واضطررت للعمل، عملت بالمدارس الأهلية، وبعد ذلك بالحكومية، وبعد عودتي إلى هنا لم أكن معتمدًا عليه توظفت، واعتمدت على نفسي.
- أم عادل معك في قرار خلع العمامة؟
* معي معممًا وغير معمم.
- الوالد منع عنك المصروف بسبب تركك للحوزة؟
* كنت في الحوزة، ولكن حين بدأت أدرس منتظمًا خارج الحوزة قطع عني المصروف.
- لم تتخلَّ عن العمامة؟
* لا بقيت على العمامة، ودرّست بالعمامة، وتوظّف بالعمامة، وعند عودتي للبلد رميتها، كما رماها الجواهري وحسين مروة وغيرهما.
- في العراق مَن كان من الأصدقاء مقرَّبًا منك غير السيد مصطفى جمال الدين؟
* الشاعر صالح الظالمي، والشاعر جميل حيدر، والسيد محمد بحر العلوم الذي أصبح رئيسًا، والسيد محمد حسين فضل الله رحمه الله.
- في كتاب لمحمد سعيد الطيب، «ألف سؤال وسؤال»، سألوه عنك، وأجاب، إجابة جميلة، «ماذا تقول: لمحمد العلي؟ أجاب: إنك تكتب للذين يفهمون، وهذه الشريحة صغيرة جدًّا، شديدة الأنانية، بارعة في التمثيل، هل تفهمني، أيها الأستاذ الكبير؟».
* جميل
- ما هو مضمون رسالة المستشار.
* أنت تكتب لفئة لا تستحق أن تكتب لها؛ فهو لا يؤمن بقضية المثقفين، المهم الناس، اكتب بوضوح؛ كي يفهموك.
- لذلك كان عنوان شهادته عنك، «محمد العلي الكتاب غير المفتوح!» لأجل ذلك أصر على الغوص في داخل العلي ليفهم القارئ البسيط العلي؛ لأن المثقف دائمًا يفهم ويحلل، حسب الإيديولوجيا التي في رأسه.
* المثقف، مع الأسف نحن نسيء إلى تعريفه المثقف، المثقف هو الذي يقف مع الناس، مع أهداف الناس على الأقل. إذا لم يختلط بهم، لا يوجد اليوم مثقف يمثل هدفًا واضحًا.
- شهادته كانت فعلًا رائعة.
* وهو إنسان رائع، ويظل يصر على خطه.
- كما تفعل أنت.
* هذا العميان (يقولها وهو يضحك ضحكته التي ألفها أصدقاؤه، والقريبون منه).
- لكن أنت دائمًا تصف نفسك بالقاسي، وتكرر اعتذارك فترة بعد فترة، للعائلة والأصدقاء، وتنسى أنك بدأت حياتك في سن صغيرة، وربما في مقياس اليوم طفل، يعني تعبت بالحياة وهي تركيبتك التي اكتسبتها منها، لماذا تلوم نفسك إذن.
* قسا علي الزمن، قسا لا شك، ولكن أحيانًا تكون القسوة جميلة، وأحيانًا طبعًا، تكون جارحة، القسوة التي أنا قاسيتها طوال السنين هي أني إذا اقتنعت بشيء لا أحيد عنه، أنا مؤمن بالإنسان، شيء يفيد الإنسان عندي قناعة به، وشيء لا يفيد، ليس لدي قناعة به، وهذا كله مظاهر اجتماعية، المظهر الاجتماعي إذا دل على علاقته بالإنسان أكون معه، ظاهرة اجتماعية لا تكون مع الإنسان أكون ضدها على طول، وهذا بالنسبة لي مريح، مرتاح أنا منه.
- لكن هذا ألم يخلق حسرة في داخلك، فعندما نفكر فيك، نقف ولا نعرف ماذا نقول لك؟ نهنئك أو نبكي عليك؟ فأنت حتى مرحلة الطفولة لم تمر بها.
* لذلك أنا أقسو، على أمي وأبي، لم يتركوني أمر بمرحلة الطفولة، لذلك الكتابة عندي صعبة، صعبة جدًّا؛ لأن الأب والأم «وَلَا تَقُلْ لهَمُا أُفٍّ».. واحد يضرب أمه قالوا له: «وَلَا تَقُلْ لهَمُا أُفٍّ». قال لهم: لم أقل لها أفٍّ! (وتدوي ضحكة العلي)
- ولكن مع ذلك أنت عاطفي، وإنساني كثيرًا.
* هي العاطفة التي تدفعني أحيانًا للخطأ، العاطفة انفعال، والانفعال أحيانًا يكون دون تفكير، النضج العاطفي غير الفجاجة العاطفية، نحن لم نُربَّ على نضج عاطفي، جميع العرب ليس عندهم نضج عاطفي، النضج العاطفي، يعرف الحدود التي يعطف فيها، والحدود التي لا يعطف فيها، نحن نخلط الحابل بالنابل، العرب ليس عندهم نضج عاطفي على الإطلاق، وأنا واحد منهم.
- ولكن عندما تكتب، تكون مختلفًا تكتب بعقل.
* أكتب بعقل صحيح، ولكن هل أتصرف بعقل؟ فرق بين التصرف والكتابة، الكتابة أنت تجلس في مكتبك، تكتب بهدوء، لكن العاطفة متى تكون، إذا صُدِمت بشيء، هنا الموقف هل هو عاطفي صرف، أو عاطفي ناضج، العرب ليس عندهم عاطفة ناضجة عند حدوث الصدمة، افرض أنت تمشي في طريق وأحدهم قطع عليك الطريق وصدمك، ما هي عاطفتك، تشتم بقوة، الغربي مختلف عنا لديه نضج عاطفي يتصرف ويقف بحدود.. ابنتي حينما كانت ساكنة في منزل عائلي في الغرب، تقول: إن ابنهم الصغير ضاع، فلم تفزع الأم بالصراخ والعويل، بل خرجت مع زوجها للبحث عنه حتى وجدوه... لو كانت عربية وضاع ابنها ماذا تتصور؟ مناحة.
- هل أصبت باليأس؟
* أحيانًا يأتيني يأس، عندما أرى الأوضاع والناس دون مبالاة، يعصف بي اليأس، ولكن أطرده، أطرد الشك في الإنسان، ليس عندي شك أن الناس سوف ينتصرون، في النهاية.
- إرادة حديدية لا يمتلكها كل شخص فقط الاستثنائيون.
* هي هكذا.
- جميع أصدقائك أجمعوا على أن أبا عادل، يعطينا الإحساس، بالأمل، بالحياة، بالحب.
*هذا شيء جميل يسرني كثيرًا.
- لأن كتاباتك تبعث الأمل فيهم وفي الناس.
* أكيد، ومثل ما قلت: أحيانًا يعصف بي اليأس ولكن أقاومه، وأظن كل إنسان إذا درس الوضع وشاهد المجتمع، يطرد اليأس.
- لماذا تطرد اليأس؟
* لأنه ظلام، يعميك عن رؤية الناس كيف يتطورون، اصبر عليهم فترات، قد تطول حتى تراهم وتقول: أسن هذا المجتمع، مثل الماء الراكد، في حين أن البشر لا يمكن أن يأسنوا، هم يتطورون.
- تكوينك الثقافي الهائل كيف اشتغلت عليه؟
* رأيته في الطريق، فسلمت عليه. قلت له: تفضل، وجاء.
- الآن وضع المملكة مختلف، المرأة أعطيت هامشًا من الحرية أكبر، في ظنك هل تستفيد المرأة من ذلك؟
* الخوف الذي ترثه النساء، الخوف الوراثي أسميه الذي يملأ المرأة، هو الذي يمنعها من الاستجابة إلى الحرية التي أعطيت لها. وإذا سألت نفسك لماذا لا تخرج المرأة دون عباءة، وهو مسموح لها؟ الخوف الوراثي هو من يمنعها، وهذا يحتاج له زمن؛ كي يزول. عندما سمح للمرأة بقيادة السيارة كم واحدة أقدمت عليها.
- على عدد الأصابع ربما.
* الآن ازددنَ، إذن الخوف الوراثي هو الذي يمنع، وهذا سيزول شيئًا فشيئًا.
- لا نريد أن نثقل عليك أكثر.. نستأذنك الآن.
* حياكم الله.. أنتم أسعدتموني كثيرًا أولًا أني رأيتكم وثانيًا بلغتموني عن الزملاء الآخرين.. وهذا يفرحني تمامًا، فأشكركم.