خالد محمد الدوس
أهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء علم الاجتماع وميادينه، واستخدام مناهجه العلمية في دراسة المجتمع البشري وظواهره، واكتشاف قوانين النظام الاجتماعي الذي يحافظ على استقرار المجتمع وضبط توازنه. وقد أسهم كثير من المفكرين والمنظرين والعلماء في إثراء هذا الميدان العلمي الخصيب، وإشباع اتجاهاته السوسيولوجية. ومن أهم المنظرين والباحثين في علم الاجتماع الحديث.
عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو (1930-2002) أحد أكبر مفكري العصر الحديث ويحتل مكانة بارزة في حقل الدراسات الإنسانية والاجتماعية.
درس الفلسفة في مدرسة المعلمين بباريس, وأرسل إلى الجزائر حيث أدى الخدمة العسكرية فدرس في كلية الأداب في الجزائر وبعد عودته إلى فرنسا كتب «سوسيولوجيا الجزائر» ثم أصدر «أزمة الزراعة التقليدية في الجزائر «ثم أصبح مديرًا لمعهد علم الاجتماع الأوروبي وانتخب عام 1982 لكرسي علم الاجتماع في «الكوليج دو فرانس».
*شهد علم الاجتماع على يديه تطورًا علميًا واضحًا وتجديدًا كبيرًا في المضامين والدور المصطلحات والأهداف إذا أحدث الباحث الاجتماعي (بورديو) في تحليله للظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية تغييرًا في حقل الدراسات الثقافية والأبحاث الاجتماعية النقدية وفي مفهوم علم الاجتماع. فقد تميز بغزارة إنتاجه الفكري العميق وإطلاعه الواسع والشجاعة في تطبيق الأفكار والمبادئ التي نادى بها في أعماله الفكرية وترجمتها إلى سلوك ومواقف وممارسات عملية. بعد أن أنتج أكثر من 30 كتابًا ومئات من المقالات والدراسات التي ترجمت إلى أبرز الألسن في العالم والتي جعلته يتبؤ مكانة عالية بين العلماء البارزين في علم الاجتماع الحديث.
* تنوعت اهتماماته في العلم والسياسة والفن والتربية والإعلام..؛ وشارك عمليًا في حراك مجتمع وأكسبه نضاله الفكري السوسيولوجي صيتًا عالميًا.
* صاغ رائد علم الاجتماع الحديث (بيير بورديو) مفاهيم أساسية ومنها مفهوم الهابيتوس، رأس المال الرمزي، رأس المال الثقافي، رأس المال الاجتماعي؛ مفهوم الإستراتيجية، التمييز، العنف الرمزي، الانعكاس، إعادة الإنتاج، وسنقوم بالتطرق لبعض المفاهيم الأساسية عند هذا العالم الكبير:
مفهوم الرأس المال:
كان أكثر من استخدم مفهوم الرأس المال وأنواعه بكثافة وفي بحوثه عالم الاجتماع بيير بورديو، حيث يرى أن رأس المال البشري, والثقافي, والرمزي, والاجتماعي تسهم كلها في تكوين وزيادة رأس المال المادي.
وقد جعل على رأسها الرأس المال الاقتصادي والرأس المال الثقافي باعتبارهما عنصرين مهمين في تحريك المجتمعات المعاصرة وأدوات للتنافس الاجتماعي.
الرأس المال الاقتصادي: موارد مالية؛ ثروات وممتلكات ويتدخل بقوة في تشكيل الرأس المال الثقافي.
الرأس المال الثقافي: وهو عمومًا المنتوج الثقافي من كتب ودراسات ومقالات ودوريات وكذلك القدرات المعرفية والمهارات الثقافية ويركز هذا النوع على أشكال المعرفة الثقافية والاستعدادات التي تعمل على إعداد الفرد للتفاعل بإيجابية مع مواقف التنافس وتفسير العلاقات والإحداث الثقافية.
الرأس المال الرمزي: وهو يتعلق بمجموعة من الطقوس التي لها علاقة بالشرف والاعتراف وهو في النهاية السمعة والسلطة التي يتمتع بها الفرد من خلال اكتسابه للإشكال الأخرى للرأس المال، وهذا النوع يسمح بفهم أن التظاهرات المختلفة لقواعد حسن السلوك ليست فقط من متطلبات الضبط الاجتماعي وإنما لها كذلك مزايا اجتماعية ذات عواقب فعلية.
الرأس المال الاجتماعي:
ولعل مفهوم رأس المال الاجتماعي هو أكثر تلك المفاهيم تعقيدًا وتداخلاً مع غيره من المفاهيم السابقة، وهو يشير إلى قيمة وفعالية العلاقات الاجتماعية ودور التعاون والثقة في تحقيق الأهداف الاقتصادية- الاجتماعية.
مفهوم الهابيتوس:
الهابيتوس أو التطبع أو العقلية التي توجه السلوك توجيها عفويًا وتلقائيًا, وهي من أهم المفاهيم التي نحتها العالم (بيير بورديو) وأكثرها إثارة للجدل منذ أن طرحه لأول مرة في كتابه (نظرية الممارسة) وهي بحسب تعريف بورديو: مجموع الاستعدادات الفطرية والمكتسبة والمتوارثة التي تعبر عن فاعلية الإنسان. ولذلك يعد (الهابيتوس) جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل الوجود بالنسبة للفرد والمجتمع.
مفهوم العنف الرمزي
العنف الرمزي يكون بواسطة السب والقذف والشتم, والإيماءات الرمزية من احتقار وازدراء والعنف الذهني واللغة والدين والإعلام والأفكار والمدرسة..الخ. ولذا يعرفه بيير بورديو بقوله «هو عبارة عن عنف لطيف وعذب, وغير محسوس, وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة, أي عبر التواصل وتلقين المعرفة, ولعل التأثير العميق للسلطة الرمزية يأتي من خلال كونها تستهدف الجانب النفسي والذهني في الإنسان خاصة وإنها سلطة غير مرئية وكل ذلك من أجل تحقيق هدف معين والوصول إلى مبتغى مطلوب بطريقة غير مباشرة ومخطط لها مسبقًا. ولذلك يهدف مفهوم نظرية العنف الرمزي إلى التغلب على المرء بين الإكراه والموافقة, من أجل فهم آليات الهيمنة والتسلط, والقوة وبعمل العنف الرمزي من خلال ثلاث مكونات تعمل في وقت واحد وهي الجهل بسيطرة الهيمنة, والاعتراف بهذه السيطرة بأنها شرعية, التغلب على الهيمنة بالسيطرة عليها ينعكس تطبيق هذه النظرية في (الهيمنة الذكورية) وهو موضوع كرس له العالم بورديو كتابًا كاملاً الذي يمضي بالقارئ في أعمق طبقات العقل الأنثوي مفككًا كيفية إسهامه في إقرار الهيمنة على المرأة رمزيًا ولغويًا واجتماعيًا.
التحليل الانعكاسي:
في آخر عقد من حياته أكد ضرورة تحليل عالم الاجتماع عمله وخطابه ونشاطه تحليلاً انعكاسيًا (ذاتيًا) بعبارة أخرى عليه أن يستعمل اكتشافات عمله ليغربل دوره ويكتشف العوامل الناتجة عن تاريخه الشخصي وتطبعه والتي قد تؤثر على ممارسته العلمية وتشوش على رؤيته للمجتمع دون أن يعي ولذلك أصبح التحليل الانعكاسي في نظر بورديو شرطًا لكل عمل نزيه وموضوعي في مجال العلوم الاجتماعية.
وإمام هذه الأعمال والدراسات والأبحاث الغزيرة التي قدمها عالم الاجتماع (بيير بورديو) باستخدامه منهجية تستهدف تحليل المفاهيم الأساسية لنظرية علم الاجتماع.. بحق جعلته من الأرقام الصعبة والأسماء الأبرز في علم الاجتماع والفكر النقدي منذ نهاية الستينيات الميلادية من القرن الفائت. ممن يملكون بعداً إنسانيًا كبيرًا في تناولهم لقضايا الشعوب. وبعد رحيله عام 2002م رثاه الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بعبارته الشهيرة المستوحاه من فكر وروح بيير بورديو قائلاً: إن إنجازاته سوف تساعد السياسيين على ضرورة فهم ثقافة العصر وأنه لا يمكن إخضاع هذه الثقافات لوطأة الاقتصاد وحده.!!