د. إبراهيم بن محمد الشتوي
تمثل الصنعة قضية كبيرة في الفكر العربي النقدي القديم، إذ مثلت مدرسة أو اتجاهاً كبيراً من اتجاهات الأدب العربي، إذ انقسمت المدارس العربية القديمة بين الطبع والصنعة، وانتمى لكل واحدة من هاتين المدرستين فئام كبير من الشعراء كان مبتدؤ مدرسة الصنعة عند عبيد الشعر التي أسسها أوس بن حجر، ثم تتابع أبناؤه الشعراء من بعده حين تتوجت بأبي تمام والمتنبي ثم أبي العلاء المعري من بعدهم.
والصنعة تعني في المدرسة القديمة أن يطيل الشاعر أو الكاتب النظر إلى عمله، يتأمله، فيحذف ويضيف، ويطيل التنقيح، ولا يقبل ما يأتيه عفو الخاطر، وإنما لا بد من إعمال العقل وكد الذهن حتى يأتي عمله مزاجاً بين العفو والصنعة.
وهي بهذا المفهوم جزء من العملية الأدبية، لا يتخلص منها في الغالب أي مبدع، وإنما الفرق في الإكثار أو الإقلال، فهناك من يكثر التنقيح، ويطيل النظر، ومنهم من ينظر نظراً سريعاً، ولا يكثر التفكير. غير أن الإبداع في الحالين لا يعتمد في حكم جودته أو ضعفه على طول الصنعة أو قصرها، ولا يحكم لأدب الصنعة على أدب الطبع أو يحكم للطبع على الصنعة، فيرى أن الأديب الذي يطيل النظر في عمله، وينقحه أضعف من الذي يكتبه عفو الخاطر سريعاً، لأنه يحتاج إلى طول التفكير والمراجعة، والإعداد، وهذا ما يجعله في منزلة أدنى من الذي يكتب عفو الخاطر سريعاً دون كد للذهن أو تعديل وإصلاح، أو يرى أن الذي ينقح أعلى قيمة لأنه يبذل جهداً كبيراً في صناعة عمله، ولأنه يملك مهارة التنقيح إلى مهارة الإبداع بخلاف الآخر الذي يكتب الكلام كيفما ورد، فهو لا يملك معياراً نقدياً يجعله قادراً على وزن كلامه ومعرفة جيده من رديئة.
فالحكم هنا للعمل الأدبي الذي يتحكم في موقف الناقد وما يراه حيال العمل من جودة أو رداءة، أو ضعف وقوة، وهو يختلف باختلاف المنشئ والمدرسة التي ينتمي إليها بعد ذلك، فقد يكون ضعيفاً، وهو ينتمي إلى الصنعة أو الطبع، وقد يكون جيداً وينتمي أيضاً إلى الصنعة أو الطبع. وقد كان الحكم كذلك على أشعار أبي تمام والبحتري، فمع أنهما من مدرستين مختلفتين؛ فمثل الأول مدرسة الصنعة، ومثل الآخر الأخرى، فإن هناك قصائد جياد لكليهما كما أن هناك ضعافاً أيضاً.
إلا أن الأمر المهم هو أن مقدار إجادة إنتاج عمل أدبي لا يتصل بالصعوبة أو اليسر، وإنما يتصل بمكونات معينة يقوم عليها النص. هذه المكونات تتمثل بالقدرة على التأثير على المتلقي بوجه عام، وإيصال رسالة ثرية غنية بغض النظر عن طريقة إنتاجه، هذه الطريقة التي تكون خاصة بالأديب وحده.
ويتصل بهذا الأمر، الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص، فقد يكون رواية أو قصيدة أو مقالة، أو قصة قصيرة دون أن يكون لسهولة الإنتاج وعسرها أثر في الحكم على الأدب بالجودة أو الرداءة أو القيمة، وهذا يدفعنا إلى الحديث عن رأي من يفضل الشعر مثلاً على السرد، بناء على أن الشعر يحتاج إلى الأوزان والقوافي، ومقدار محدد من التفعيلات في كل بيت ينبغي أن يلتزمها الشاعر، وهي قيود تزيد من صعوبة قول الشعر والإجادة فيه، ينبغي على الشاعر أن يتخطاها جميعاً أو أن يتقنها جميعاً حتى يكتب قصيدة جيدة، في حين أن الرواية لا تتطلب مثل هذه القواعد، ولا تتصف بهذه القيود، فلا وزن يفرض على الشاعر كلمات معينات، ولا تفعيلات تفرض عليه عدداً محدداً ولا قافية ينبغي أن يلتزمها في نهاية هذا العدد المحدد، وهو ما يجعل الكاتب في سعة من أمره في النظر والتأمل، والإعداد والمراجعة، ويمكنه من صقل عمله، وبنائه على الصورة التي يريد، ما يعني بدوره سهولة كتابة الرواية، والإبداع فيها في مقابل عسر قول الشعر والبراعة فيه.
هذه الرؤية الأخيرة من وجهة نظري، تبدو للوهلة الأولى براقة وذلك أنها تعتمد المنطق والمعرفة، وتتلبس لبوس النقد، ولكننا حين نتأملها نجدها تغيب المعمار الداخلي للنص، والرسالة التي يحملها لصالح بعض القيود الشكلية، فالشعر كما قال الرومانسيون شعور، وإذا لم يهززك عند سماعه فليس خليقاً أن يقال له شعر، وقد تجاوزت النظرية النقدية ربط الشعر بالوزن والقافية، فإذا تجاوزناهما وجدنا الرواية تمتلئ بالقيود والقواعد -على طريقة صاحبنا- التي تجعل كتابتها ليست من السهولة بمكان.
ثم إن الأمر، حتى لا أقع بما وقع به من سلف، لا يعود إلى القدرة على تخطي القيود وكأنها سباق حواجز، وإنما بقدرة الكاتب على أن يقدم شيئاً غير مكرور، أو لم يكتب من قبل خاصة في الموضوع الذي يكتب فيه، وأن يبعث الفضول في نفس المتلقي، ويجعله يشعر بالاهتمام حيال ما يكتب، وهي قضايا إذا قارناها في المواد المكتوبة عسيرة التحقيق، لا يمكن أن تقاس بقضايا الوزن والقافية وما ينتج عنه من صعوبة في الشعر.