يقول قاموس المعاني: «ثقافة أساسية: هي مجموع السمات الثقافية التي توجد في زمان ومكان معينين وغالبا ما تشيرإلى تلك الثقافة التي تمهد أو تيسر انبثاق المخترعات».
الحق أنني لم أفهم شيئاً من هذه المقولة القاموسية! فعندما يقول القاموس ثقافة أساسية؛ فهذا معناه أنه توجد ثقافة غير أساسية؛ ولم يتفضل علينا القاموس بذكرها! وعندما يقول القاموس هي؛ فمعنى ذلك أن هذا الكلام هو تعريف؛ وهو يعرف الثقافة بالسمات الثقافية؛ فهل يجوز تعريف المبهم بالمبهم؟ أي كما يقال «وفسر الماء بعد الجهد بالماء». وهل يجوز لكتاب اسمه «قاموس» أن يقول في تعريف ما؛ كلمة «غالباً»؛ فغالبا هي وجهة نظر لجزء من الناس؛ وليس كلهم. وهل الثقافة هي فقط تلك التي تمهد «للمخترعات»؟
انني لا أعترض على هذا الكلام الخالي من المضمون وحسب، بل أتسائل: أليس من الأجدر لمؤلف أو مؤلفي القاموس أن يقولوا مثلاً: إن الثقافة مفهوم يطلق على كذا وكذا؛ ومن سماتها كذا وكذا؟ فبهذا الشكل لا يكون المؤلف أو المؤلفون قد أعطوا تعريفاً لمفهوم ليس له تعريف بعد؛ وحافظوا على مهنية وأمانة القاموس! بيد أن مؤلف القاموس هو كاتب كغيره من الكتاب، ويمكن أن ينخرط في اللعبة التاريخية لطمس الحقيقة وبرامج «غسيل المخ»، سواء بحسن نية أم لا.
إذا كان هناك تعريف أو حتى توصيف للثقافة فأنا لست مطلعاً عليه للأسف الشديد! غير أن مفهوم ثقافة هو مستخدم في كل وقت؛ ويمس حياتنا اليومية والعامة؛ ولابد من تحديد معالم هذا المفهوم؛ كي لا يتاجر به من يريد التشويش أو البلبلة.
من الواضح أولاً: أن مفهوم ثقافة يتعلق بأحد جوانبه بمقدار الثروة المعرفية لدى الفرد أو المجتمع أو البشرية كلها، ولكن تلك الثروة ليست كافية لوحدها تحديد معنى كلمة «ثقافة». فمهما كان اتساع المعرفة لا يكون لها أي قيمة إذا كانت غير فاعلة اجتماعياً! أي أنها تصبح كأكداس الكتب في خرابة لا يعلم بها أحد. أما إذا كانت فاعلة اجتماعياً، فتصبح أهمية اتساعها هي بمقدار ما يضيف ذلك الإتساع من فاعليتها!
ثانياً: الفاعلية هي ضرورة وليست خياراً. فالفرد الواسع الاطلاع، تبقى معرفته مجرد «حفظ نصوص» إذا لم تكن فاعلة. وهي ليست بالضرورة «إيجابية أو سلبية» بشكل دائم. والإيجابية والسلبية مرتبطتان بالدفع نحو التغيير والتطور المستمر أم عدمه. و «المثقف» الذي «يوظف» معرفته بالدفع نحو تطور وازدهار مجتمعه هو مثقف إيجابي، أما الذي يحاول تثبيت وتسمير مجتمعه في جمود المقابر أو ينسب للتراث ما ليس فيه؛ ثم يضفي عليه مقدار من القدسية؛ أو يخرج النص عن سياقه التاريخي؛ فهو ليس مثقفاً سلبياً وحسب؛ بل يجب معاقبته بالقانون! ومن منطلق الفاعلية هذا نستطيع -من وجهة نظري الخاصة- الإجابة على السؤال: من هو المثقف؟ وهل هو سلبي أم إيجابي؟
ثالثاً: احتكار المصطلح: فغالبية المؤسسات المعرفية كالإعلام والمناهج التعليمية- وخاصة في الغرب- ليست محايدة. وهي تروج وتضخم ما يتماشى مع توجهاتها الفكرية والسياسية، وتحجب أو تتلف بالقوة ما لا يتماشى مع تلك التوجهات.
رابعاً: الثقافة ليست ثابتة. فأي فرد أو مجتمع يعتقد أنه قد بلغ المستوى «الأعلى» من الثقافة، فهو بذلك قد حكم على ثقافته بالجمود أو الموت! والثقافة الفاعلة هي في صلب الصراع الاجتماعي؛ ولذلك في كل مجتمع توجد ثقافتان؛ واحدة للظالم وأخرى للمظلوم؛ ويجري صراع عنيف بينهما.
عملية تنمية واستخدام الثروة المعرفية هي عملية «فنية» بامتياز. وأي فرد؛ سواء كان كاتبا أو صانعاً أو فلاحاً أو غير ذلك؛ يحتاج إلى مهارات «فنية» لتوظيف ما يمتلكه من معرفة لتسيير حياته اليومية. وبالتأكيد تختلف تلك المهارات من شخص إلى آخر حسب الفئات العمرية. وكذلك من مجتمع إلى آخر حسب تاريخ ونمو المؤسسات المعرفية. كما يوجد ثقافة عولمية تخص عصر آليات التواصل الإجتماعي. كل ذلك يحتاج إلى ابداع فني لمواكبته.
** **
- عادل العلي