قسوة السابعة صباحاً تتجسد في يناير. تلافيف الرياح الشتوية أحاطت بالمدينة الصامتة حتى جمدتها. الشمس ترتقي السماء بخجل الهزيمة من البرد الذي حولها إلى مصباحٍ كبير لم يعد ينشر الدفء. الطيور على الأسطح وأعمدة الإنارة غرزت رؤوسها في أجسادها ونفشت ريشها وهي تفكر بالعودة إلى أعشاشها. والبشر استمهلوا الوقت فوق الأسرة.. تحت الأغطية، يناورون الأحلام وأجراس الساعات التي تدق بالقرب من رؤوسهم.
كما أنه الخميس، والخميس ليس جيداً بالنسبة لي، فالناس لا تهتم بالخروج لأعمالها باكراً في اليوم الأخير من الأسبوع، وكل ما أخشاه الانتهاء من الشارع قبل أن أصادف أحدهم يبادلني التحية.
«سيكون يوماً سيئاً بالتأكيد.. ليس لي فقط بل لكل زملائي!»
قلتها لنفسي واقفاً في أول الشارع المنحدر. شعرت بأنفاسي المتبخرة تدفئ وجهي للحظة ثم تتسرب بلا فائدة على إثر تراخي عمامتي. تركت ما بيدي على الأرض وحللت عقدة رأسي وحركت طرفي عمامتي فشعرت بالبرد يخز عظام جمجمتي كالدبابيس.
خرج رجل من منزله في آخر الشارع وأنا على هذه الحال. نظرت إليه من بعيد ولكن الأمل كان ضعيفاً بوجود هذه المسافة بيننا، لن أتمكن من اللحاق به والسلام عليه. بدا الأمر بلا طائل، فأعدت ربط عمامتي بتأنٍ ثم انحدرت عبر الشارع بطمأنينة.
سمعتُ إغلاق نافذة، في البداية ظننتها باباً ولكن لم يخرج أحد من بيته فتأكدت أنها نافذة، والنوافذ لا فائدة منها. جاء بعدها هدير سيارة تدخل الشارع فرفعت رأسي مستطلعاً. انتصبت مستعداً لمرورها وتوقفت عما بيدي واستقبلت سائقها وهي تقترب. أظهرت له جسدي وأنا أنظر إليه ورفعتُ يدي لتحيته ولكنه لم ينظر إليّ. درت على محوري وأنا أطارده ببصري ولكنه علّق بصره على الطريق أمامه ومر بمحاذاتي واختفى في نهاية الشارع.
«لا بأس، سأجد من يبادلني التحية»
قلتها لنفسي بصوتٍ مسموع، تعزيت بها وأكملت عملي في الشارع المنحدر. قدماي تنزلقان مع تدافع جسدي وأنا أبحث بين السيارات المتوقفة على الجانبين وحول براميل النفايات. الحذاء البلاستيكي الضخم الذي أنتعله يجعل المشي عسيراً في المنحدر، كان واسعاً ويصدر عنه صوت مزعج. وعلى الرغم من غلظته، إلا إن أصابعي تحولت بداخله إلى قوالب ثلجية تكاد تتهشم.
ما إن انحنيت بالقرب من أحد البراميل حتى سمعتُ صوت بابٍ يغلق. رفعت رأسي ورأيت أحدهم يستقل سيارته ويدير محركها ثم ينظر إلى وجهه في مرآة السقف. مشط شعيرات ذقنه الصغيرة بأصابعه بعد أن مسح وجهه. لم يكن يبعد عني أكثر من عشرة أمتار، دفعتُ خطواتي باتجاهه حتى توقفت أمام سيارته مجتهداً في عملي. رفعت رأسي فالتقت أعيننا وألقيت تحيتي عليه بسرعة فردها بيده ولم يفعل شيئاً آخر. كان مهندماً ويعلّق بطاقة عمله على جيبه العلوي بمشبكٍ دائري أزرق. بحثت حول سيارته وعلى باب منزله متلصصاً عليه بين الحين والآخر ولكنه لم ينظر إليّ.
فكرت وأنا أعمل في الحرارة المندلعة من محرك سيارته، إنها تضيع سداً. ماذا لو أني خلعت قفازي ووضعت كفي على الغطاء الأمامي لأدفئها ولو لبرهة. هل سيظن أني مجنون إذا فعلتها؟ هل سيغضب لأني ألمس سيارته؟ ماذا لو خلعت حذائيّ ووضعت قدميّ بمواجهة العادم؟ أصابع قدميّ المتيبستين بحاجة للدفء أكثر من أصابع يديّ. وقبل أن أستغرق في الفكرة، عاد الرجل إلى الخلف وخرج من الموقف الضيق وانطلق إلى عمله. كنت أنظر إلى مؤخرة سيارته وهي تختفي في آخر الشارع بخيبة.
تركت المكان بعدها وتنقلت منحدراً بخطٍ متعرج بين البراميل والسيارات المركونة على جانبيه. لا أغفل في طريقي ما تقع عيني عليه وأبحث تحت السيارات وفي أحواض الشجر.
أحد زملائي همَّ بدخول الشارع فتوقفت في منتصفه ليراني، أظهرت له نفسي فلزم مكانه لبرهة وهو ينظر إليّ ثم أشار بيده وعاد أدراجه. هكذا نحن، عملنا يقتضي تفاهماً ضمنياً فيما بيننا، الشارع الذي يعمل فيه أحدنا يصبح له، لا يتدخل أحد الزملاء في عمل الآخر ويترك المكان ويبحث عن شارعٍ آخر يعمل فيه.
فُتح بابٌ قريب بلا ترقب. خرج منه رجل مهندم هو الآخر ولكنه لم يكن يعلّق بطاقة عمله، كما أنه لم ينظر إليّ، لم يعرني اهتماماً. شعرتُ أنه يتعمد ذلك. أشاح بوجهه عني وأنا أنتظر أن يرفع رأسه أو يعيرني اهتماماً ولكنه لم يفعل. سار حتى ركب سيارته وأدار محركها متجاهلاً وجودي ففكرت أن مزاجه متعكر. كنتُ قد اتجهت إلى باب منزله ولم أفكر بتدفئة أصابعي هذه المرة. استرقت النظر إليه فإذا به يتابع تحركاتي بنظرةٍ قاتمة وريبة متوجسة مما دفعني للتفكير في الانتقال إلى مكان آخر لإبعاد توتره. ولكنه رفع رأسه فجأة والتقت أعيننا فسارعت بإلقاء التحية عليه. رفع يده عندها ورد التحية دون أن أزيح نظري عنه. كنت أراقب يده وهي تهبط ببطء ثم تتوقف قبل وصولها للمقود وتشير إليّ. دب الأمل بصدري وأنا أقترب منه. خلعت قفاز يدي اليمنى وهو يتزحزح على مقعده ويبحث في جيبيه الجانبيين. ثم أنزل زجاج سيارته وألقى بعض الريالات في يدي فدسستها في ردائي الأصفر متعمداً إلا أعدها أمامه وعدت إلى عتبة بابه لأتأكد من نظافتها. انهمكت في كنس ترابها ورفع الأوراق المتناثرة من حولها والرجل يستدير بسيارته ويرحل من المكان وأنا أشيعه بابتسامة دافئة. أردت إخراج الريالات من جيبي لأعدها بعد رحيله، ولكني سمعتُ باباً آخر يُفتح فاتجهت إليه.
** **
- خالد الداموك