نحن العربَ سريعو التعلق بكل بارقة أمل تلوح في سماء أحلامنا وتشي بدفعنا من التأخر إلى التقدم ومن التخلف إلى التحضر؛ فترانا نُعلِّق آمالنا كلها عليها ونجعلها طوق النجاة الأوحد الذي ينتشلنا من القيعان إلى الذُّرا. لقد مر العرب (في عصرهم الحديث) بمحطتَين وضعوا فيهما كل آمالهم في بلوغ النهضة وتحقيق التقدم ومواكبة العصر، ثم وصلوا اليوم إلى محطة ثالثة بعد تينك المحطتَين. كانت أُولى محطاتهم للوصول إلى التقدم والنهضة هي القومية العربية (العروبة) التي غدت بمثابة العقيدة أو الأيديولوجيا الجاذبة للعرب في ظل قواسم مشتركة بينهم أبرزها اللغة، ونشأ عن تلك الأيديولوجيا القومية انصراف شبه تام عن أصول الإسلام ومبادئه فحلت العروبة مكانها، وهذا ما حدا بالعروبيين إلى أن جعلوا من العروبة دِينًا يدين به العربُ لا ثانيَ له، وذابت بعض الدول العربية في بعضها تحت مظلة (الوحدة العربية)، واجتاحت موجةٌ من الغلو العروبي العربَ حتى لا صوت يعلو على صوت القومية العربية، ثم صحا الجميع على خطر ذلك الغلو وفساد تلك الأيديولوجيا فكانت المخرجات خيبات عربية أشهرها نكسة (1967). بعد تكشُّف فساد أيديولوجيا العروبة انفض عنها العرب وتحول معظمهم للاستمساك بالإسلام؛ كونه –برأيهم- المخرج من حالة التخلف العربي الحالَّة بهم التي كانت العروبة سببًا رئيسًا فيها، والذي حصل أن هذا الاستمساك (التديُّن) في جوانب منه لم يكن على منهج التوازن والاعتدال وهو ما خلق أيديولوجيا لها منطلقاتها التي لا ترتهن لقيم الإسلام ومبادئه النبيلة؛ فنحتْ بهم منحى الغلو والإفراط حتى استسهلوا التكفير وفشا بينهم الصراع الطائفي، ونتج من ذلك الغلو وتلك الأيديولوجيا تيارات متطرفة وسيلتها السلاح والقتل وغايتها المناصب والحُكم وشعارها انتشال العرب من تخلفهم والانطلاق بهم إلى معارج الحضارة والتقدم، ثم صحا الجميع على حالة من التردي الأمني العربي والفوضى العارمة والاحتلال الأجنبي التي كانت مخرجات أصيلة لحالة الغلو وعدم التمسك بالإسلام على هدى وبصيرة. واليوم يحط العرب رحالهم في محطتهم الأيديولوجية الثالثة وهي محطة (الفلسفة) خصوصًا وقد خلت لها الساحة العربية فبدت بوصفها الأمل لانتشال العرب من ترديهم الحضاري. الفلسفة يراها مريدوها حبل النجاة بوصفها كما يقال أم العلوم، وهي مجموعة من الأفكار الرؤى التي تجتهد على تفسير الموجودات، لكن الأمر الذي يُخشى منه هو أنيحضر (الغلو في الفلسفة) كما حضر لدى (العروبة والتديُّن)، فتتحول من كونها علمًا (له كغيره إيجابياته وسلبياته ويقبل الأخذ والرد والمراجعة) إلى أيديولوجيا لا تحتمل نتائجها الشك -مع أن الفلسفة تقوم على مبدأ الشك- ولا يعتريها الخطأ، وإلى الاعتقاد بأن مخرجاتها كلها إيجابيات. لا أرى إشكالاً في خوض تجربة الفلسفة لكن الخشية أن تصل الحال إلى أن يُجعل من الفلسفة عقيدة لا تقبل النقض وعصًا سحرية تصنع المعجزات، ولذا رأينا إرهاصات ذلك في أقوال تزعم بأنها وراء كل تقدم أنجزه الإنسان في البر والبحر والجو، وهذا منحى غير جيد يصرفها عن حقيقتها ويصادر الحقيقة الناصعة التي تقول بأن العلوم التطبيقية التجريبية وراء الكثير من منجزات العصر، وهناك مَن يريد تحييد أهدافها وتحجيمها، وتوجيه مخرجاتها لتخدم مقاصد معينة، وهذا أول مؤشرات الانحراف بها عن مقاصدها العامة. نعم للفلسفة جوانب إيجابية ولها قيمتها وأهميتها لكنها ليست كل شيء، ثم ماذا أنجزت قبل نهضة العصر الحديث سوى اشتغالها بالغيبيات (الميتافيزيقيا) التي فصَلت فيها الرسالات السماوية في حينها، وفي العصر الحديث حلَّت القطيعة بينها وبين العلوم التطبيقية -التي تقوم على التجربة- فاستقلت تلك العلوم عنها. الأهم في الأمر (ألا نغلو في الفلسفة) فتصبح نَفَسًا نتنفسه، ونضع كل أسباب التقدم والتفوق في سلتها؛ حتى لا نصحو بعد عقدين أو ثلاثة على خيبات جديدة ونبدأ صعود السلم من أوله؛ ولذا ينبغي أن نأخذ الفلسفة بوعي ونستخلص أفضل ما فيها ولا نُلبسها لبوس القداسة والعصمة الذي بدأ البعض يحيك خيوطه. أخْذُ الفلسفة (دون تكامل مع غيرها من أسباب التقدم)، والتزيي بزيها، وترديد أدبياتها.. كل هذا لا يصنع التقدم والتفوق المنشودين، وقد قلت هذا من قبل عن التديُّن في مقالي (التديُّن لا يصنع التفوق)؛ فتديُّن الشخص -مجرد التديُّن دون أخذ بأسباب التفوق- لن يجعل منه منتجًا لوسائل التفوق الحديثة كالآلات والتقنيات ومُمَكِّنات العصر، وكذلك الحال في التلبس بلبوس الفلسفة والتسمي بها والغوص في تاريخها وأعلامها واستظهار مقولاتهم، كل هذه لا تُغني شيئًا مالم تكن روح التفلسف موهبةً أصيلةً في الشخص معضودة بأسباب التفوق المادية والمعنوية. ولو سلَّمْنا بأن الفلسفة صنعت نهضة أوروبا والغرب -أو كان لها النصيب الأكبر فيها- فأين هي من أوروبا زمن العصور الوسطى المظلمة وما قبل تلك العصور، خصوصًا واللسفة ظهرت قبل الميلاد بعدة قرون؟ وها هي نهضة اليابان المتعاظمة لم نسمع بتجييرها للفلسفة، بل يؤكد (نجيب الخنيزي) في مقال له بعكاظ أن اليابان «لم تعرف الفلسفة وعلوم اللاهوت منذ عصورها السحيقة وحتى الآن»، فلا تحمِّلوا الفلسفة ما لا تحتمل ودعوها تحل بهدوء وتوازن. والمحصلة: لنجربْ لكن بوعي وتوازن وعقلانية دون إفراط وغلو، مستحضرين تفاصيل التجربتين السابقتين؛ حتى لا تتكرر النتائج وتزدحم الخيبات وترتفع نبرة التلاوُم بيننا، فربما أن نهضتنا العربية المنشودة مرهونة بمحطة رابعة منتظرة لا تُشكل (العروبة والتديُّن والفلسفة) شيئًا كبيرًا في أدبياتها.
** **
- محسن علي السُّهيمي