قبل ستين عامًا نشأ خلاف لغويّ طريف بين الشيخ حمد الجاسر والمحقق عبدالسلام هارون، على إثر تعليقٍ للجاسر على قولٍ لهارون، فاستخفَّ هارونُ برأي الجاسر في تعليق له يستجدي القُرّاء إلى صفّه، ولكنّ هذا الخلاف لم يُحسم وبقِيَ معلّقًا إلى اليوم، وخلاصة القصة فيما يأتي:
جاء في تحقيق الأستاذ المحقق عبدالسلام هارون لكتاب عرّام بن الأصبغ السُّلمي (أسماء جبال تهامة وسكّانها) عبارة غامضة لم يستبن قراءتها، ورسمها على صورتها في المخطوط، وهي: «وأمعاوهم ما يكون السىن» هكذا(1). وقال هارون في الحاشية ما نصّه: «كذا وردت هذه العبارة في الأصل، ومن الواضح أن السياق سردُ أسماءٍ لعيون. وقد علّق عليها الشيخ حمد [الجاسر] تعليقا عجيبا، قال حفظه الله: «للأستاذ العذر في جهل بعض المواضع التي لم يَسِر فيها ولم يجد من النصوص ما يوضّح مواقعها تماما، ولكن ما عذره في جهل الكلمات اللغوية -وهو اللغوي الذي عانى نشر بعض المعجمات اللغوية- ونعني بالكلمات ما نجده متداولا في معجمات اللغة المطبوعة؟ في ص 55 –من النشرة الأولى- ما هذا نصه: [وأمعاوهم ما يكون بالسىـن] وعلّق الأستاذ (أي هارون) قائلا: كذا وردت هذه العبارة في الأصل. ولو رجع إلى كتب اللغة لوجد أن الأمعاء أمكنة تجتمع فيها المياه، وتبقى مدة طويلة» أ.هـ. (كذا). [قال هارون]: ولست أدري أي المعاجم المطبوعة ورد فيها هذا النص الغريب الذي ساقه الشيخ؟ ثم قال الشيخ: «وإذن فالجملة هي: [وأمعاء، وهو ماءٌ يكون السنينَ]!؟ وهكذا وردت هذه الجملة فيما نقله السمهودي في وفاء الوفاء ج2 ص331 عن عرّام». [قال هارون]: «وأترك التعليق على هذا التعليق للقارئ المنصف». انتهت حاشية هارون في المصدر المشار إليه.
أقول: القارئ المنصف يدرك أن الصواب هو ما ذكره الشيخ المحقّق حمد الجاسر، فقراءته للنص صحيحة مليحة، وقد أخطأ شيخ المحققين عبدالسلام هارون في هذا الموضع، وأعجب من هذه العثرة إصرارُهُ على الخطأ واستخفافه بالشيخ الجاسر، وهو –أي الجاسر- في المواضع حجّة، ولا يستهان به في اللغة، وقد أشار إلى أن الكلمة في المعاجم، فكان حريًّا بالأستاذ هارون أن يتحقق منها في المعاجم التي بين يديه، ومنها تهذيب اللغة للأزهري واللسان والتاج، فهذا الأزهري يقول في مادة (حوى): «وأمّا الحَوَايا التي تكون فِي القِيعان والرياض، فهي حفائرُ ملتوِيةٌ يملؤُها ماءُ السيل فيبقى فيها دهرًا؛ لأنّ طين أسفلِها عَلِكٌ صُلْبٌ يُمسِكُ الماءَ، واحدتها حَوِيّةٌ. وقد تسميها العَرَب الأَمْعاء، تَشْبِيهًا بحوايا البطْن»(2)، ونقله صاحبا اللسان والتاج في (حوي). وقول الأزهري في مادة (معي) وهو يحكي بعض مشاهداته وسماعه أيام الأسر في بادية نجد: «وقد رأيت بالصَمَّان في قيعانها مَسَاكاتٍ للمَاء وإخاذًا متحوّية تسمّى الأمعاء، وتسَمى الحوايا»(3)، ونقله ابن منظور في اللسان (معي) والزبيدي في التاج (معي).
وهذان النّصّان يقطعان بصحّة ما ذهب إليه الشيخ الجاسر في قراءة نصّ عَرّام السّلمي، ويؤكّدان خطأ الشيخ عبدالسلام هارون، ووجه الغرابة عندي أنّ اللسان والتاج مطبوعان حين كتب عبدالسلام هارون تعليقه هذا، والنص فيهما، وله تصويبات وتعليقات كثيرة على اللسان، فكيف لم يرجع إلى اللسان أو التاج بعد أن نبَّهه الشيخ الجاسر؟!.
وهنا ألتفت إلى أمر في غاية الأهمية، اقتضاه قول الأزهري: «رأيتُ بالصمّان» وهو أن اللغة تكون أقرب إلى روح العرب الأقحاح حين يأخذها اللغوي أو المعجمي من أهلها وبيئتها، وقد أتاحت سُنيّات الأسر للمعجميّ الكبير أبي منصور الأزهري صاحب التهذيب أن ينهل اللغة من منابعها حين أُسرته طائفة من الأعراب وهو في منصرفه من الحجّ في طريق عودته مارّا بديار قبائل هوازن بنجد سنة 312هـ أيام المقتدر بالله، وذلك في فتنة القرامطة، قبّحهم الله، فمكث في الأعراب سُنيّات، استفاد فيها الكثير من ألفاظ اللغة دوّنها في معجمه، وها هو يقول في حديثه عن محنة أسره: «كنت امتُحنت بالإسار سنةَ عارضتِ القرامطةُ الحاجَّ بالهبير، وكانَ القومُ الذين وقعتُ في سهمهم عربًا عامتهم من هوازن، واختَلَطَ بهم أصرامٌ من تَمِيم وأسد بالهبير، نشؤوا في البادِية يتتبّعون مساقط الغَيْث أيامَ النُّجَع، ويرجعون إلى أعداد المِياه في محاضرهم أيام القيظ، ويرعون النَّعمَ ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد يَقع في منطقهم لحنٌ أَو خطأ فاحش. فبَقيت في إسارهم دهرًا طويلا. وكُنَّا نتشتَّى الدَّهناء، ونتربّع الصُّمَّان، ونتقيَّظ السِّتارَين، واستفدت من مخاطباتهم ومحاورة بَعضهم بَعضًا ألفاظاً جمّة، ونوادر كثيرة، أوقعتُ أكثرها في مواقعها من الكتاب»(4).
وقلتُ ذات مرة على سبيل المداعبة: ليت الأعراب أسروا كلَّ معجميٍّ عراقي قبل أن يؤلف معجمه ، وبخاصة الصاحب بن عبّاد والجوهري وابن فارس، ليكون في أسرهم خير عظيم على معاجمنا، يتيح لهم فرصة المشافهة وأخذ اللغة من منبعها.
... ... ... ... ...
(1) ينظر: نوادر المخطوطات 2/ 426.
(2) تهذيب اللغة (حوي) 5/ 292.
(3) التهذيب (معو) 3/ 250، 251.
(4) تهذيب اللغة (المقدمة) 1/ 8.
** **
- د.عبدالرزاق الصاعدي