يقوم السرد في مفهومه العام على التتابع، تتابع انهمار الحكاية واندفاعها نحو النمو، والإسهام في الإمساك بأدوات الخطاب كلها، والسير بها نحو الاكتمال، واتضاح الرؤية، وهو بهذا أداة من أدوات التعامل البنائي في النص الأدبي، بغض النظر عن جنسه، سواء أكان قصة أم رواية، أم خاطرة، أم مقالة.
واتساع السرد -باعتباره وحدة التعبير عن الخطاب- يجعل بناءه يقع -غالبًا- تحت تأثير الجنس الأدبي، ففي القصة يقع السرد تحت دهشة القصة، وانبهار الخطاب، وفي الرواية يقع تحت تأثير الإيديولوجيا، وفي المقالة يقع تحت تأثير التلقي.
وانتقال السرد من مفهوم أدبي يقوم على اختصاصه بنقل الأفكار من الصورة الواقعية إلى الصورة اللغوية يجعله عُرضة لكثير من العوامل التي تؤثر في طريقة تشكّله، والتشكّل هنا يتجاوز فكرة البناء إلى القالب الذي يكون فيه السرد، وتموضع الفكرة في السرد نفسه.
ولعل الحوار أبرز ما يمكن أن يعلل حضور السرد في الخطاب القصصي بشكل عام؛ إذ بالحوار تخرج الشخصيات والأحداث والأماكن ويتحدد الزمان، ورغم خطورة الحوار في نقل الأفكار والرؤى التي يتبناها السارد، فإنه جزء من بناء الخطاب الذي يهيمن عليه السرد، وبالحوار يمكن أن ينتقل السرد من كونه إيجابيًا إلى أن يصبح سلبيًا، أو سردًا مضادًا.
ويمكن أن يكون الحوار في (الميديا) -اليوم- شكلاً من أشكال تموضع الأفكار في السرد؛ فالصورة لم تعد جامدة في التعبير عن الإشهار التجاري مثلاً، بل أصبحت حوارًا متعدد الرؤى، والحيثيات، حوارٌ بين المنشئ والمتلقي، وحوار بين الرسالة وما يوازيها في دائرة اهتمامها، وحوار بين عناصرها الداخلية، من الألوان، والرسومات، والأشكال الهندسية؛ فوجود الألوان التي قد تشعر المتلقي خالي الذهن بالتناقض، وهو رغم ذلك حوار يشير إلى امتداد الفكرة الرئيسة من الإشهار ذاته إلى المتلقين كافة، فأصبح الإشهار قصة مرسومة.
ورغم إبداع كثير من كُتّاب المحتوى الإشهاري في صناعة الصورة الإشهارية، وما يتصل بها من العلامات اللغوية المتمثلة في التراكيب التعبيريّة، فإن إبداعهم لا يواكب اللغة، وسيمياء التعبير عن الأفكار الرئيسة للصورة؛ لاعتمادهم أن اللغة المحكية هي المهيمنة على خطاب الأفكار في الصورة، وبعضهم يعتني كثيرًا بالصورة البصرية ويهمل الصورة اللغوية، فالصورة البصرية، يفهمها الجميع، أما الصورة اللغوية فتختص بفئة معيّنة، بناء على المحلَّية، أو الطبقية، أو غيرها من التصنيفات في وظائف اللغة.
ولا فت للنظر أن اكتمال الصورة البصرية مع الصورة اللغوية يُخرجُ إشهارًا مميّزًا وربما يكون فريدًا؛ لأنه استخدم الصورة اللغوية بذكاء، ولا يُقصد بالذكاء هنا استخدام الانزياحات اللغوية، بل قد يكون التعبير بالحقيقة شكلاً من أشكال التعامل مع الصورة اللغوية بذكاء؛ وهذا ما يجعل كثيرًا من الإشهارات التجاريّة اليوم لا تصمد كثيرًا أمام المتلقي؛ لاعتماد خطابها اللغوي على الانزياح في بنائه، وهو ما يجعل الإشهار مرتبطًا بالمحليّة الظرفية، أو الوقت الذي يكون فيه التلقي حاضرًا وفق الخطابات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي انزاح عنها بناؤه اللغوي.
وهذا ما يفسر حنين المتلقي إلى بعض الإشهارات القديمة؛ لأنها تجاوزت الظرفية في بناء خطابها اللغوي؛ فهو يصلح لأي زمن؛ إما باعتبار الحقيقة التي بُني عليها خطاب الإشهار، فأصبحت الحقيقة حياة ممتدّة لا تقف على وقت التلقي، بل تُزرع في النقس، وربما ما يجعل الإشهار أكثر جاذبية وحياة أن يكون موافقًا للطبيعة الفسيولوجية للإنسان، فالظلام لا يناسب الحياة الجيدة، وربما لأن تلك الإشهارات كانت تراعي حدود ما وضعت له، دون الإغارة على مصطلحات، ومظاهر أخرى ليست في حقلها.
فبراعة صناعة الإشهار ترتكز أولاً على بناء حوار جيد بين المنشئ والمتلقي، حوارٍ يقوم على فهم آليات الأبنية اللغوية، والتصويرية، ومرونة التعامل مع الظواهر البصرية في الإشهار، مما يجعل الحوار ينطلق إلى المتلقي منذ النظرة الأولى، ويحقق هدفه من التأثير فيه.
** **
- د. سلطان بن محمد الخرعان