المحور الأول: مقدِّمة تعريفيَّة
تحفِل المطبوعات العربيَّة الحديثة المشتملة في مقدِّماتها على جملة «أمَّا بعدُ» بطرائق مختلفة، ومناهج متعدِّدة لكَتْبِ هذه الجملة، وتنسيق شطرَيها وصفِّهما، لم تكن قد أُلِفَت في كُتُب التُّراث، ولم تُعرَف قبل ظهور أجهزة الطباعة الحديثة. فدَعَتْ غرابةُ هذه الطَّرائق، وبِدعة هذه المناهج إلى البحث في الموضوع -قَدْر الوُسع والطَّاقة- لعلَّنا نحظى بشيءٍ فيه جديدٍ، أو نُصيب فائدةً أو إضافةً إلى هذه الجزئيَّة من التُّراث الخالد.
هذا، وقد وسمتُها بـ(جملةُ «أمَّا بعدُ» في ضوء الطِّباعة الحديثة)، أمَّا الجملةُ فلأنَّني قصدتُّ بها التَّركيبَ الكُلِّيَّ لها، أي: «أمَّا بعدُ» وجوابها، وكأنَّ «أمَّا بعدُ» لقبٌ أو اسمٌ لها، أي: الجملة الملقَّبة أو المسمَّاة بـ»أمَّا بعد»؛ لأنَّ «أمَّا» حرفٌّ فيه معنى الشَّرط مؤوّل باسم شرطٍ تقديره عند الجمهور «مهما يكن من شيءٍ»(1). قال سيبويه (ت180هـ): «التَّقدير في قولهم: أمَّا زيدٌ فمنطلقٌ، مهما يكن من شيءٍ فزيدٌ منطلقٌ»(2)؛ فتصدقُ عليها التَّسميةُ بالجملة؛ لتحقُّق شروطها فيها. وأمَّا تقييد العنوان بـ»الطِّباعة الحديثة»؛ فهو لغياب صور هذه الطَّرائق عن المخطوطات، وخلوِّ المطبوعات القديمة كالحجريَّة والمصوَّرة منها؛ إذ لم تكن لهذه الجملة في كَتْبِها إلَّا صورةٌ واحدةٌ، هي تسطيرها -أمَّا بعدُ وجوابها- في سطرٍ واحد، ولم تُعهَد هذه المناهج المختلفة والطَّرائق المتعدِّدة في كتابة أمَّا بعدُ في سطر، وجوابها في سطرٍ آخَر إلَّا بعد ظهور الأجهزة والآلات الحديثة المستعملة في الطِّباعة اليومَ، قال الدُّكتور سُليمان خاطر: «وإنَّما أجدُ ذلك في الكُتُب المطبوعة حديثًا غالبًا، ولا أدري أولَّ مَن ابتدع ذلك، ويبدو لي-والله أعلم- أنَّ هذا التَّقطيع من بِدع بعض الجهلة مِن الطابعينَ والورَّاقين ثمَّ بدأت هذه البِدعة تنتشرُ وتعمُّ في الكتابة العربيَّة الحديثة»(3).
المحور الثَّاني: مذاهب واتِّجاهات
تبيَّن من استقراء أربعينَ كتابًا من كُتُب الإملاء والكتابة والتَّرقيم أنَّ في هذه الجملة مذاهبَ تختلفُ وتأتلفُ، واتِّجاهاتٍ تُشرِّق وتُغرِّب، يمكن إجمالها فيما يأتي:
أولًا: مذهب التَّسطير: كتابة الجملة -»أمَّا بعدُ» وجوابها- في سطرٍ واحدٍ(4).
ثانيًا: مذهب التَّشطير: كتابة الجملة في سطرين، بجعل «أمَّا بعدُ» في سطرٍ، وجوابها في سطرٍ آخرَ تالٍ. وهذا المذهب على اتِّجاهين:
الاتِّجاه الأول: يكتب «أمَّا بعدُ» مُفردةً على سطرٍ دون أن تقترن بجملٍ أخرى، ويضع جوابها في سطرٍ آخَر. وهو على نمطينِ أيضًا:
1. التَّصدير: أي: إفراد «أمَّا بعدُ» ببداية السَّطر(5).
2. التَّوسيط: أي: إفراد «أمَّا بعدُ» بوسط السَّطر(6).
الاتِّجاه الثَّاني: يكتب «أمَّا بعدُ» مُقترنةً بجملٍ أخرى على سطرٍ، ويضع جوابها في سطرٍ آخَر. وهو على نمطينِ أيضًا:
1. ما جعلَ «أمَّا بعدُ» في صدر السَّطر(7).
2. ما جعلَ «أمَّا بعدُ» في عجُز السَّطر(8).
المحور الثَّالث: حُججُ الفريقين
لم أجد -فيما اطَّلعت- مَن تعرَّض لموضوع التَّسطير بالتَّعليل غيرَ الدُّكتور سليمان خاطر الذي قال: «أمَّا بعدُ فهذه جملة واحدة. أمَّا: حرف شرط وتفصيل، من أدوات الشَّرط غير الجازمة، والكلام في هذا الحرف كثير في كتب النَّحو وحروف المعاني، ومعروف. وإنَّما الذي يُحيرني هو كتابة (أمَّا بعدُ) في سطر وجوابها في سطر آخر، بعد ظهور الطِّباعة واستخدام علامات التَّرقيم فيها. فما الدَّاعي لهذا وهما جملة شرطية لا يتمُّ المعنى إلا بذكر الشَّرط والجواب فيها؟ ولو كان هذا في كتابات بعض الشُّدَاة لهانَ الأمر وجلَّ الخطب، ولكنَّه في كتابات الكبار من المؤلِّفين في العربيَّة وغيرها، بل أصبح هو الشَّائع في معظم كتابات اليوم في حدود ما وقفتُ عليه. الذي يبدو لي أنَّ عبارة أمَّا بعدُ وما بعدها تكتب في فقرة واحدة؛ لأنَّها جملة واحدة في المعنى الذي لم ينتهِ حتى نبدأ فقرة جديدة»(9).
أمَّا التَّعليل لتشطير الجملة إلى سطرينِ فأجاب الأستاذ خالد مغربيّ عن تساؤل الدُّكتور خاطر، فقال: «وهي جملة واحدة (أمَّا بعدُ)، وتُقال في بدء الحديث وتصدير الكتابة لذا صار تموضعها تموضعًا منكسر السِّياق، وأعني به فقد دلالتها الشَّرطية والتَّفصيلية والتوكيدية فأصبحت مُفرَّغة من حمولاتها لتفضي إلى حمولات أُخَر ... ولا أرى دليلًا على ما اقترحه هنا إلا أنَّ المتحدِّث أو الكاتب لا يريد تفصيلًا بقدر ما يريد إجمالًا، ولا يبغي توكيدًا بقدر ما يرغب إدلاءً، فيُدلي بحديثه ويُدبِّج مقاله لغرض أوحد ليس إلَّا هو التَّخلُّص من المقدِّمات والانصراف إلى لُب المقال لذا تجد الأمر مختلفًا عما عرضتَه... فإنَّ الكاتب أو المتحدِّث لا يعنيه دلالة ما وضعت من أجله بقدر ما يهمُّه الوصول إلى لُب القضية المتكلّم أو المتحدّث عنها، ولا أدلَّ على ذلك من فقد اقتران الجواب بالفاء كدليل كونها حرفًا شرطيًّا، فتجد سياقات نحو: أمَّا بعدُ... أُحيِّيك أخي بتحية الإسلام! ونحو: أمَّا بعدُ... يُشرِّفني أن ألتقي بك! ونحو ذلك»(10).
وقال الأستاذ حازم إبراهيم: «ونحن نعلم ما قد يعتري اللَّفظ من نحتٍ أو إضافة لمعناه أو إلباسه ممَّا لم يكن له قبلًا، لذا فإنّي أرى أنَّه لا شيء في كتابة (أمَّا بعدُ) ثمَّ يليها سطر آخر به الموضوع، وكأنَّ المتحدِّث فصلَ فصلًا تامًّا بين مقدِّمته وبين موضوعه، بل واختصر المقدِّمة أيضًا، ليس من قبيل الشَّرط أو التَّوكيد بقدر ما هو من قبيل الاختصار والوصول إلى لُب الموضوع بما تقتضيه عجلة السَّرعة، وما يقتضيه تطور اللُّغة»(11).
وردَّ الدُّكتور سليمان خاطر عليهما قائلًا: «وأفهم ضمنًا من كلامكما الموافقة على أنَّ العبارة كلَّها جملة شرطية واحدة متَّصلة المعنى مترابطة الدَّلالة بحيث لا يمكن فهم المقصود وتمام المعنى إلا بذكرها كلّها، ولكن ما لم أفهمه هو: ما الدَّاعي إلى كتابة الجملة الواحدة في فقرتين؟ ولم أجد هذا التَّقطيع لهذه الجملة التي قلما تخلو منها مقدِّمة كتاب، في شيء من كتب القدماء ولا في كتب أهل العناية بالعربيَّة من المحدَثين، كأبي فهر على سبيل المثال، وإنَّما أجد ذلك في الكتب المطبوعة حديثًا غالبًا، ولا أدري أول من ابتدع ذلك... ولعلَّ قواعد كتابة الفقرة أصبحت من الأمور المعروفة للجميع ممَّن له صلة بالكتابة، وسؤالي الذي أكرِّره مرَّةً أخرى: ما الفائدة اللَّفظية أو المعنويَّة من تقطيع الجملة الواحدة وجعلها في فقرتين شكلًا وكتابةً لا لفظًا ونُطقًا؟ ولا تبدو لي أيَّة صلة بين هذه البدعة المنكرة عندي وبين ما أشار إليه أخي الأستاذ حازم ممَّا دعاه عجلة السُّرعة وتطور اللُّغة»(12).
المحور الرَّابع: نظرٌ وترجيحٌ
يتراءى لي -والله أعلم- أنَّ الرَّاجح في كَتْبِ جملة «أمَّا بعدُ» هو التَّسطير، بجعل «أمَّا بعدُ» وجوابها في سطر واحد، لا تشطيرها إلى سطرين؛ استنادًا إلى الأُسس الآتية:
أولًا: استصحاب الأصل، وإبقاء ما كان على ما كان؛ لانتفاء المقتضِي مخالفةَ الأصل، وتهافُتِ مُسوِّغاته.
ثانيًا: اقتفاء العُرف السَّائد في كُتُب التُّراث العربيّ، والتزام المأثور المتواتر في منهج كتابة هذه الجملة.
ثالثًا: العموم في اتِّباع المنهج الكليّ الموحَّد لنظائر الجملة في بابتها، مثل: الألفاظ والعبارات المستعملة في التَخلُّص من موضوع إلى آخر، وأدوات والاستفتاح، ونحوها، والشُّمول لكلِّ جزئيَّات ما ينضوي تحت موضوع واحد.
رابعًا: التَّساوقُ مع وَحدة أجزاء الجملة، والتَّطابق مع تماسكِ شطرَيها مبنًى ومعنًى.
خامسًا: الاقتصاد في الوقت والجهد بالسَّيرورة على نسقٍ واحدٍ، والتَّتابع والاطِّراد على وتيرة واحدة، دون تحوِّل كتابيٍّ من سطرٍ إلى آخَرَ.
سادسًا: السَّلامة من اللَّوازم الباطلة المترتِّبة على تشطير الجملة، والخلوّ من قوادح تجزئتها إلى سطرين، ومِن هذه اللَّوازم:
1. وجوب تجريد الجواب من الفاء؛ لقطع الصِّلة بين الشَّرط وجوابه، وبترِ التَّلازم المانعِ من الفصل بينهما بَلْهَ تقطيعَهما إلى سطرين!
2. مخالفة مذهب الجمهور في لزوم جواب «أمَّا بعدُ» الاقترانَ بالفاء إلَّا مع قول محذوف أو في ضرورة شعريَّة(13).
3. اطِّراد التَّشطير في المظانّ المقارِبة لدلالة «أمَّا بعدُ» أو المشابهة لها، نحو المفردات والعبارات الدَّالة على حسن التَّخلُّص، أو أدوات الاستفتاح؛ لتوارد علَّتها عليها، وتوافق سببيَّتها معها.
4. التَّرقيم بعلامة النُّقطة عَقِب «أمَّا بعدُ»؛ لصيرورتها على القول بالتَّشطير نهايةَ فِقْرةٍ، تقتضي ختمَها بما يدلُّ على تمامها وانتهائها.
5. الشُّذوذ في قواعد كتابة الفِقْرة في التَّحرير العربيّ التي تنصُّ على أنَّ الفِقْرَة «مجموعة من الجمل المترابطة تدور حول فكرة واحدة وتعالجها تفصيلًا وتطويرًا»(14). إضافةً إلى اشتراط التَّرابط العضويّ على مستوى الصِّياغة اللُّغويَّة بين مفرداتها(15). والله أعلى وأعلم.
... ... ... ... ...
الهوامش:
(1) انظر: الكتاب لسيبويه:1/235، والمقتضب للمبرّد:2/253، وحروف المعاني للزَّجَّاجي:64، والجنى الداني للمراديّ:482.
(2) الكتاب: 1/148، 453، 474، 2/67.
(3) شبكة الفصيح لعلوم اللُّغة العربيَّة (alfaseeh@alfaseeh.com)، بتاريخ: 26/8/2007م.
(4) انظر: أصول الإملاء للخطيب:5، وأفانين إملائية لنجلاء الكثيري:1، وانجلاء السحابة عن قواعد الإملاء للإزميريّ الأزهريّ:4، وحلية الأدباء في نظائر الضاد والظاء لحسام النعيمي5، وعلامات التَّرقيم في اللغة العربية لقباوة:5، وعلم كتابة اللغة العربية والإملاء لحسني عبد الجليل يوسف:1، وعنوان النجابة في قواعد الكتابة للسفطي:13، وفن التَّرقيم في العربية للحموز:6، وقواعد الإملاء لعبد السلام هارون:5، وكتاب الإملاء لحسين والي:5، والمختار في قواعد الإملاء للنيرباني:5، ومختصر الإملاء والتَّمرين لحسين والي:5، والمرجع في الإملاء لراجي الأسمر:8، والمطالع النصرية للهوريني:9، والمعجم المفصَّل في الإملاء لناصيف يمّين:6، والمفرد العلم في رسم القلم لأحمد الهاشميّ:2، ونتيجة الإملاء وقواعد الترقيم لمصطفى عناني:3.
(5) انظر: أصول الكتابة العربيَّة للباجقني:9، والإيجاز في الإملاء العربي لريم الخياط:5، والبداية في الإملاء والترقيم للنقيلي:8، والضياء في قواعد الترقيم والإملاء لعبد المجيد نافع:3، والعذراء في قواعد الإملاء لحمد القمرا النابت:195، والكافي في قواعد الإملاء والكتابة لأيمن أمين عبد الغني:13، ولآلئ الإملاء لمحمد مامو:5، والمجمل في الإملاء لأبي نعامة:5، ونحو تقويم جديد للكتابة العربية لطالب عبد الرحمن:12.
(6) انظر: قواعد الإملاء لابن عثيمين:3، والقواعد الذهبية في الإملاء والترقيم لأحمد محمد أبو بكر:5، والمنجد في الإملاء لأبي السعود:4.
(7) انظر: قواعد الإملاء بطريقة ميسَّرة لعبد العزيز محمد الجابر:1، والواضح في القواعد الإملائيّة لأحمد السيد أبو المجد:5.
(8) انظر: التحرير العربي لجامعة الملك سعود:5، وتحفة النبهاء في قواعد الإملاء لمحمد عدنان:5، وصوى الإملاء لمحمود صافي:5، وعلم الكتابة العربية لغانم قدوري:5، وعلم النَّقط والشَّكل لغانم قدوري الحمد:5، والكتابة العربية من النقوش إلى الكتاب المخطوط لصالح إبراهيم:5، ومباحث في الترقيم لصالح الأسمري:353، ومشكلة الهمزة العربيَّة لرمضان عبد التَّوَّاب:5.
(9)، (10)، (11)، (12) شبكة الفصيح لعلوم اللُّغة العربيَّة (alfaseeh@alfaseeh.com)، بتاريخ: 26/8/2007م.
(13) انظر: الكتاب:2/312، والمقتضب:2/71، وشرح الكافية للرَّضي:1/267، والجنى الدَّاني للمراديّ:523، والمغني لابن هشام:80، وهمع الهوامع للسّيوطيّ:2/579، وأُسلوب «أمَّا بعدُ» دراسة نحويَّة للدُّكتور أيمن غباشي:828.
(14)، (15) فنّ التّحرير العربيّ للشّنطي:70، وانظر:71.
** **
صفاء صابر مجيد البياتي - العراق، كركوك