د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الحكمة كما يقال ضالة المؤمن، وهي بحق واحدة من الكثير من الادوات التي يبحث عنها الإنسان ليعيش عيشة كريمة، لكن علينا ألا نأخذها كما هي دون الأخذ بعين الاعتبار تناقضات الحكم والظروف التي تنطبق عليها، فمثلا هناك حكمة تقول: احتفظ بالقرش الأبيض لليوم الاسود، كما أن هناك حكمة أخرى تقول: انفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، وهاتان الحكمتان غير متناقضتين، وإن بدتا كذلك، وكل منهما يصلح في مكانه، وأما الحقيقة التي لا لبس فيها، والقول الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه نجده في تلك الآية الكريمة في القرآن الكريم الذي لا يأتي إلا بحق قال الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} والأمثلة على ذلك كثيرة.
والحكم موجودة منذ الأزل وعند جميع الشعوب تناقلها الناس شفاهة، وسطروها في الحوليات، وفي الكتب، وعلى الصخور، وعلى جلود الحيوانات أيضاً، والكثير منها اهمل أو ضاع مع ما ضاع من الثقافة البشرية عبر التاريخ، ونجدها اليوم مكتوبة على شكل نثر، او شعر، او مقولة يسري بها الركبان، و يتناقلها الناس حتى وإن لم يكتبوها، وهي أيضا تتولد حسب الظروف والأحداث الجسام التي يمر بها الإنسان في أيامه ولياليه، والحقيقة أنها ستظل تتجدد مع مرور الزمن.
زهير ابن أبي سلمى، وطرفة بن العبد، والمتنبي، والجاحظ، والتوحيدي، واحلامي، وغيرهم كثير، سطروا لنا الكثير من الحكم، وسوف نقف قليلا في هذا المقال عنده بضع من الجمل التي أوردها التوحيدي في كتابه مثاب الوزيرين لنعرف شيئا مما ذكره في هذا الكتاب من تلك الحكم التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وما زال معناها قائما حتى يومنا الحاضر.
قال اعرابي: ((لم أر كالعقل صديقا معقوقاً، ولا كالهوى عدواً معشوقاً، و من وفقه الله للخير، جعل هواه مقموعاً، ورأيه مرفوعاً)) ودار نقاش بين الجرجائي وأبي علي الحاتمي فقال الجرجائي: إنما تحرم لأنك تشتم، فقال الحاتمي: وإنما اشتم لأني أحرم.
ذات مرة صار حديث بين علي مسكويه وصديقه أبي علي الحاتمي، فقال علي مسكويه: أما ترى أن الوزير ابن العميد في إعطاء فلانا 1000 دينار ضربة واحدة؟ لقد أضاع هذا المال الكثير فيما لا يستحق، فقال الحاتمي له بعدما أطال الحديث، وتقطع بالأسف: أيها الشيخ أسألك عن شيء واحد وأصدق، فإنه لا مدب للكذب بيني وبينك، ولا هبوب لريح التمويه علينا: لو غلط صاحبك فيك في هذا العطاء، وبأضعاف أضعاف أضعافه كنت تتخيله في نفسك مخطئاً، و مبذراً، ومفسداً، وجاهلا بحق المال؟ أو كنت تقول ما أحسن ما فعل، وليته أربا عليه؟ فإن كان ما تسمع على حقيقته، فأعلم أن الذي بدد مالك، وردد مقالك، إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه فأنت تدعي الحكمة وتتكلم في الاخلاق وتزيف منها الزائف، وتختار منها المختار، أفطن لعمرك، واطلع على سرك وشرك.
بعد الإنتهاء من هذا الكلام قال للذي يتحدث معه، وهو وزير آخر، حيث قال: أنما قلت ذلك لأبين أن الخطأ في العطاء مقبول، والنفس تغضي عليه وتأنس، والصواب في المنع مردود، والنفس تقلق منه، ولذلك قال المامون، وهو سيد كريم، وملك عظيم وسائس معروف، لأن اخطئ باذلاً، أحب إلي من أن أصيب مانعا)) والشاعر يقول: ((لا يذهب العرف بين الله والناس))، وإن كان يكفر النعمة بعض من أنعم عليه بها، إنه ليشكرها كثير ممن لم يتلمس حلاوتها، ولم يطعم فتاته منها، ولم يسغ جرعة من غديره، ولم يسحب ذيلاً من أذيالها.
ما أجمل الفضل وأهله، وما أحسن الخير وبذله، ومن أقسى ما يمر على الكريم عدم توفر ما يستطيع بذله من المال أو الجاه، فمن تعود على العطاء، ولم يقدر، فإنه قد منع لذته، وهي لذة لا تقدر بثمن، لا سيما أن كان ذلك العطاء يذهب إلى مستحقيه من المحتاجين وذي النهى..
قال الشاعر:
وكيفَ التماسُ الدّرِّ والضّرعُ يابسُ
أي كيف يمكن أن يدر الضرع اذا لم يكن به حليب، ومثله كيف لليد السخية أن تعطي إذا ضاقت بها الحال، ولكن ما لامرئ مما قضى الله حائل، وليس لرحل حطه الله حامل، وقال الشاعر:
وقد زادَني عَتباً عَلَى الدّهر أنّني
عَدِمتُ الذي يُعدِي عَلَى حادِث الدَّهر