د. أحمد محمد الألمعي
منذ بداية جائحة الكورونا في مارس 2020 والعالم في سباق مع الزمن لكبح جماح هذا الفيروس، ويحشد العلماء جهودهم في سبيل إنقاذ البشرية من هذا الوباء الذي لا يبدو أن له نهاية في المنظور القريب خاصة بعد ظهور المتحورات الجديدة. وكما تنبأ بعض العلماء والباحثين في مجال الفيروسات وعلم الأوبئة بناء على تجارب سابقة مع فيروسات مشابهة مثل فيروس سارس وميرس، والتي انتقلت للإنسان عن طريق الحيوان وسببت أعراضًا مشابهة لأعراض كوفيد-19 الحالي، إلا أن أعداد الإصابات والوفيات للفيروسات السابقة لا تقارن بالوباء الحالي والذي بلغت قرابة 270 مليون حول العالم وتخطى عدد الوفيات حاجز الـ5 ملايين. كما أن الانتشار السريع للمتحورات الجديدة تشير إلى قدرة الفيروس على التكيف والاستمرار.
الباحث الأمريكي في علم الأحياء جيسي بلوم Jesse Bloom من مركز فريد هاتشينسون Fred Hutchinson لأبحاث السرطان في سياتل بواشنطن، تنبأ بحدوث الوباء بناء على دراسة سابقة لفيروس مماثل؛ فيروس كورونا موسمي يسمى 229E - ويصيب الناس بعدوى متكررة على مدى سنوات طويلة في حياتهم. ولمعرفة أسباب تكرار العدوى بهذا الفيروس حصل بلوم على عينات دم عمرها عقود من أشخاص تعرضوا لفيروس كورنا الموسمي 229E، وفحصها بحثًا عن أجسام مضادة ضد نسخ مختلفة من الفيروس تعود إلى الثمانينيات من القرن الماضي. أشارت نتائج عينات الدم التي أخذت في ثمانينيات القرن الماضي إلى مستويات عالية من الأجسام المضادة المانعة من الإصابة بالعدوى بالمقارنة مع نسخة عام 1984 من فيروس كورونا 229E. لكن لدى الأجسام المضادة قدرة أقل بكثير على تحييد نسخة فيروس التسعينيات. وكانت الأجسام المضادة أقل فاعلية ضد متحورات فيروس كورونا 229E من 2000 و2010. وينطبق الشيء نفسه على عينات الدم من التسعينيات. وأدت هذه النتائج إلى معرفة أن لدى الناس مناعة ضد الفيروسات من الماضي القريب، ولكن ليس لديهم مناعة ضد فيروسات من المستقبل، مما يشير إلى أن الفيروس كان يتطور ليتغلب على المناعة. وهناك تشابه واضح بين متحور أوميكرون مع فيروس كورونا الموسمي 229E،» كما يقول بلوم وديلتا Delta في كونها تحمل طفرات تُضعف من فاعلية الأجسام المضادة التي تطورت ضد النسخ السابقة من فيروس سارس-كوفيد-2 . ويتسابق الباحثون للتعرف على تفاصيل متحور أوميكرون Omicron شديد التحور. لكن انتشاره السريع في جنوب إفريقيا يوحي بأنه قد وجد بالفعل طريقة لتجنب المناعة البشرية، وسنتعرف مع مرور الوقت إلى الكثير عن خصائص وتطور هذا الفيروس في السنوات القادمة.
تعمل حملة التطعيم العالمية التي قدمت ما يقرب من 8 مليارات جرعة على تغيير المشهد التطوري للفيروس، وليس من الواضح كيف سيواجه الفيروس هذه التغييرات. وفي الوقت نفسه، بينما ترفع بعض الدول القيود للسيطرة على انتشار الفيروس، تزداد فرص فيروس السارس- كوف-2 لتحقيق قفزات تطورية كبيرة. تقول ويندي باركلي Wendy Barclay، باحثة في علم الفيروسات في جامعة إمبريال كوليدج لندن. «كنت أتوقع تمامًا أن هذا الفيروس التاجي الجديد سيتكيف مع البشر بطريقة فعالة وهذا ربما يعني قابلية انتشار مرتفعة».
تم التعرف على متحور دلتا في ولاية ماهاراشترا الهندية خلال موجة شرسة من كوفيد-19 التي ضربت البلاد في ربيع عام 2021، ولا يزال الباحثون يقومون بتقييم الآثار المترتبة على الجائحة. بمجرد أن وصل المتحور إلى المملكة المتحدة، انتشر بسرعة ووجد باحثو علم الأوبئة أنه كان أكثر قابلية للانتشار بحوالي 60 % من متحور سابق; ألفا، مما جعله معديًا بمرات عدة أكثر من السلالات الأولى المنتشرة من فيروس سارس-كوف-2. تقول باركلي، «متحور دلتا هو نوع من متحور ألفا الخارق super-Alpha . «أعتقد أن الفيروس لا يزال يبحث عن حلول للتكيف مع المضيف/ الحاضن البشري».
إن الدراسات من مختبر سوبر ألفا ومختبرات أخرى تشير إلى أن متحور دلتا اكتسب فاعلية كبيرة من خلال تحسين قدرته على إصابة الخلايا البشرية والانتشار بين الناس بالمقارنة مع المتحورات الأخرى كما يتكاثر متحور دلتا بشكل أسرع ومستويات أعلى في الشعب الهوائية للمصابين، مما قد يفوق الاستجابات المناعية الأولية ضد الفيروس.
يمثل دلتا وسلالته الآن الغالبية العظمى من حالات الإصابة بكوفيد-19 في جميع أنحاء العالم. توقع معظم الباحثين أن تتفوق سلالات دلتا هذه في النهاية على آخر الاستجابات المناعية. لكن أوميكرون قوض تلك التوقعات. يقول أريس كاتزوراكيس Aris Katzourakis، المتخصص في التطور الفيروسي بجامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة: «كان الكثير منا يتوقع أن يكون المتحور الغريب التالي من سلالات متحور دلتا، وهذا نوع من البدائل. وقد تعرفت الفرق البحثية في بوتسوانا وجنوب إفريقيا على المتحور أوميكرون في أواخر نوفمبر 2021 ويعمل الباحثون في جميع أنحاء العالم على قياس مدى التهديد الذي يشكله.
يشير الارتفاع السريع في عدد حالات الإصابة بـ أوميكرون Omicron في جنوب إفريقيا إلى أن المتحور الجديد يتمتع بفعالية مقارنة بمتحور دلتا، كما يقول توم وينسليرز Tom Wenseleers، باحث في علم الأحياء التطورية والإحصائية الحيوية في الجامعة الكاثوليكية في لوفين Leuven في بلجيكا. ويحمل أوميكرون Omicron بعض الطفرات المرتبطة بقدرته على العدوي العالية جدًا.
يقول آدم كوتشارسكي Adam Kucharski، باحث في علم الأوبئة في كلية لندن للهايجين Hygiene والطب الاستوائي، أن تحور فيروس سارس-كوف-2 استجابةً للمناعة له آثار مترتبة على التحول إلى فيروس وبائي. من المرجح أن يتسبب الفيروس في تفشي أوبئة متفاوتة الحجم، مثل الأنفلونزا ومعظم التهابات الجهاز التنفسي الشائعة الأخرى.
إن مدى سرعة تطور فيروس سارس -كوف-2 استجابةً للمناعة سيحدد ما إذا كانت اللقاحات بحاجة إلى تحديث. من المحتمل أن تحتاج اللقاحات الحالية إلى التحديث في وقت ما، كما يقول الباحث بيدفورد. في نسخة أولية من الورقة المنشورة في سبتمبر 2021، وجد فريقه علامات على أن فيروس سارس-كوف-2 كان يتطور بشكل أسرع بكثير من فيروسات كورونا الموسمية وحتى أنه يفوق في سرعة تطوره إنفلونزا A، التي يُطلق على شكلها المنتشر H3N2 (أنفلونزا الطيور). يتوقع بيدفورد أن يتباطأ فيروس سارس-كوف -2 في النهاية إلى حالة تغير أكثر ثباتًا. يقول: «سواء كان الأمر شبيهًا بفيروس أنفلوزا الطيور H3N2، حيث تحتاج إلى تحديث اللقاح كل عام أو عامين، أو ربما إلى تحديث اللقاح كل خمس سنوات».
يوفر الانتشار الهائل لمتحور دلتا وظهور أوميكرون Omicron - بمساعدة طرح اللقاح غير العادل في البلدان ذات الدخل المنخفض ومستويات تدابير التحكم الدنيا في بعض الدول الغنية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أرضًا خصبة لفيروس سارس-كوف-2 ليقفز قفزات تطورية إضافية مفاجئة.
وقد أشارت دراسة أعدتها مجموعة استشارية علمية تابعة لحكومة المملكة المتحدة في يوليو 2021 احتمال أن يصبح فيروس سارس-كوف-2 أكثر حدة أو يتفادى اللقاحات الحالية بإعادة الاندماج مع فيروسات كورونا الأخرى. استمرار الانتشار في الحواضن الحيوانية، مثل حيوان المنك أو الغزلان ذات الذيل الأبيض، يؤدي إلى زيادة احتمالية حدوث تغييرات مفاجئة، مثل تجنب مناعة الجسم أو حدة الإصابة المرتفعة.
قد لا يزال المستقبل القادم لفيروس سارس- كوف-2 في أيدي البشر. فتلقيح أكبر عدد ممكن من الناس قد يكون هو مفتاح التحكم في هذه الجائحه وبينما لا تزال اللقاحات فعالة للغاية، قد يؤدي إلى منع الفيروس من فتح مجالًا للتغييرات التي تؤدي إلى موجة جديدة.