أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لقد خَزَرْتُ الفضْلةَ من أعمالي الصحفية خلال أربعين عاماً، وكنت مكثراً جداً، خزر الصقور بعد انتقاءٍ سابق ألحقته بمؤلفاتي؛ فوجدت منها ما حقه أن يكون حبيس الأضابير من المهاترات الصحفية مع الأقران ومن دونهم، ومن المراهقات العاطفية الفكرية، ووجدت ما هو تواشج بيني وبين القارئ من مطارحات ثقافية، أو تداعي ذكريات، أو بثٍّ عاطفي كمقالات الرثاء وقصائده.. ولم أُبق من المطارحات إلا ما هو نقيٌّ من المهاترات، وما كنت على يقين بأنه لن يثير حفيظةً أو موجدة.. وقد يكون جانب المتعة أكثر، وما كان من فوائد علمية ثقافية، أو أدبية، أو لغوية.. إلخ؛ فهو ابن ساعته لم أعاوده بمزيد من البحث والتهذيب إلا لِمَاماً، وقد أسلفت في بعض مقالاتي حال (كلام الجرائد) عند العلماء المبرِّزين.. والانفعـال ليس بمفهومه العادي العامي الذي يعني الغضب؛ بل هو انفعال للسموِّ الخلقي، والجبروت الفكري، والتقصِّي العلمي، والتدفُّـق الجمالي (عواطفه وانفعالاته).. وفي هذه الانفعالات ما هو شريط من الذكريات مما يختزنه الإنسان منذ بلوغه الحلم إلى ما قُبَيْل ردِّه إلى أرذل العمر، ويضِلُّ كثير من مَخْبـُـوْئِها عن الذهن، ولكنها تتساقط عليه بالتداعي عند المناسبة.. والإنسان له خواطر مع الجمادات والعجماوات ولكنه مدني، وجمهرة صلته ذهناً ووجداناً إنما هي مع أبناء جنسه.. وبقدر مدنيَّته تكثر الأسماء في حياته، وبقدر لـَمَّـاحيته واهتمامه يَمْثُل في الذهن كثير من مخزون ذاكرته عن علاقاته مع الأسماء والأشياء.. وفي أوساط حياتي ـ حياة الجفوة بين صحوتي الصِّبا والكهولة ـ كانت علاقتي بأكثر الأسماء علاقةَ قلقٍ، ويصحب القلق أحياناً جفــوة وحذر مع أنه ليس من طبعي التحفُّظ أو العزلة!!.. لقد زَخَرتْ حياتي بأسماء تسعد بهم للدنيا لا الآخرة، وهي سعادة مؤقتة لفئتين من الأريحيين، وهم قوم تبادلهم التسلية بالنكتة واللمم وطيوب الفن والأدب.. ولا تدَّخرهم للنوائب؛ لأنهم لا يملكون من قطمير!!.. وإذا كَشَّر الناجـذان لم يطيروا إلى الخطر زرافات ولا وحـداناً!!.. وكلهم يتعبد لله في تلك اللحظة بسؤال العافية!!.. وزخرت حياتي بأسماء قوم آتاهم الله بسطة في الجسم والمال؛ فكانوا لتبادل التسلية ولحمل النوائب معاً عند النوادب، وحياتي معهم في تقلُّص منذ الكهولة؛ لأنهم لم يأخذوا لآخرتهم، وقد بُسط لهم في دنياهم.. وكلما خطا المسلم خطوة غير مبدِّل ولا متخثِر فإنه يأخذ أمره بالجد؛ لأنه أضاع الوقت والمدى بعيد، وهو في خطواته مشدود بأشواق روحية.. وهؤلاء الأريحيون في الجملة لو أخذوا لآخرتهم، واستحضروا نـيَّة العبادة بتمييز المقصود بها، وتمييز العمل المقصود لكانوا من أكثر أهل الأرض قُرُبات؛ لأن تسليتهم عن طيبة، وبرّهم عن مرحمة، ونجدتهم طبع خلقي أصيل.. يعِفُّون عن الغيبة ووطء العقب تشيُّماً، وقد تغيب نيَّة العبادة فلا يكون ذلك تديُّناً .. ويأنفون من الرذيلة عن كبرياء خلق، وليس للتصنُّع في حياتهم نصيب.. تأمنهم في الدينار والقنطار تطبُّعاً وإن كانت صلاتهم مع الجماعة نزراً.. وأهل العبادة لا يكون معروفهم كجفنة عبدالله بن جدعان؛ لأن الواحد منهم يقول: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، ولأن كل أعمالهم الصالحة بنية العبادة.. وبقدر تقلُّصِ علاقتي بهم يتأجَّج حنيني إليهم تأجج حنين المخدوعة بالبوِّ، وهي الخلوج - سواء خدعوها بالبوِّ ولم تنخدع به، أو لم يخدعوها -، وأهفو إلى أريحيتهم هفُوَّ ظِماء الإِبل ـ وما أرق قلوبها ـ إلى المورد!.
قال أبو عبدالرحمن: ثم زَخَرتْ حياتي بأسماء ظننتُ أني أسعد بها.. تُعرِّي كرشة الساق، وتعمل للآخرة فيما تزعم، وإذا بأحد سخفائهم يضاربني في المسجد!!.. ومرة يُحرِّك سبَّابته على شكلٍ دائري وأنا بسبيل التكبير لركعة الوتر، ويلتمس مني الاعتقاد الشنيع: (بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن).. خاب ظنه، وإنما عقيدتي أن الله خلق آدم على صورة آدم، وأن الضمير واحد في قوله: «إنَّ الله خلق آدمَ على صورته طوله ستون ذراعاً..».. ولو كان المعنى خلق الله آدم على صورة الرحمن لكان طول الرحمن ستون ذراعاً سبحانه وتقدَّس؛ وإنما الصورة والطول لآدم عليه السلام، ومن فرَّق بين الضميرين فعليه البرهان بعد تصحيح التفرقة لغة.. وعقيدتي أن حديث «خلق آدم على صورة الرحمن» حديث باطل لهلاك إسناده، ونكارة متنه، ومخالفته لصريح النص الصحيح، وصحيح المعتقد.. ثم هو على فرض صحته محمول على الاختصار والمعنى؛ لِظَنِّ الراوي أن المراد بضمير «صورته» الرحمن سبحانه.. هكذا قال الحذَّاق كالقرطبي وغيره، ولدي بحث محرَّر حول هذا ربما أفردته في كتاب، وربما ألحقته بكتابي (من أحكام الديانة).. وعقيدتي أن الله يُركِّب الإنسان في أي صورة شاء، وعقيدتي أن آدم عليه السلام من أهل السماء؛ فأهبطه الله إلى الأرض؛ فالعقول تحتمل تبدُّلَ الصورة لتبدُّلِ المقرِّ؛ فأخبر الله أن آدم على صورته لم تتغير.. وأراد ذلك الخنَّاس إقناعي بأن ذلك المعتقد الفاسد لا يجرُّ إلى تشبيه مع أنه لا يُفهم من الصيغة (على صورته) غير التشبيه الذي نفاه الله، وأيضاً فقد استُدِلَّ له بنصٍّ ذي تشبيهٍ من التوراةِ؛ فحرك أصبعه مرة أخرى يقترح عليَّ القولَ بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، ثم يأمرني بالتفويض، وبترك صحيح وصريح النص والمعتقد ويقول: بحول الله ما يكون تشبيه!!.
قال أبو عبــد الرحمن: لعله يظن أن حتمية المدلول مثل محتمل الحركة عندما يقول الجمَّال العامِّي: خلَّها تاطا، والله ياقا!!.. فطردته ووسواسه بالإحرام لركعة الوتر حتى خنس، وتركته في ضلاله يَعْمَهْ؛ إذ لم تصادف رُقْيتي محلها فيه، والله المستعان.
قال أبو عبدالرحمن: فعشقت الزِّيَّ الظاهر لأولئك، وقَلَوْتُ ما وراء ذلك.. ولو خلِيَتْ لخربتْ، والأفق يبشر ببعث جيل الحفاظ مندمجاً في جيل المفكرين يقودهم وسط ثالث يحفظ في الصدر الضروريَّ من الأصول لفظاً ومعنى، أو معنى وحسب.. ولديه الطروس مُشْرعة يقتبس منها بعقل لاقط جبار، وفكر نيِّر.. وبقيت فئة ما أشد سعادتي بها ذات علم وتديُّن وورع وصدق مع علَّام الغيوب، مع رحابة أفق، وطيب طوية، ودماثة خُلُق، ولين جانب، وحلاوة معشر.. هم لذة السمع والبصر، وشهوة النفس في عصر العلم والصناعة والإلحاد الذي أصدر أدب الغثيان وفلسفة العدم!.
قال أبو عبد الرحمن: والكعـة والكعَّات، والألم والشجى، والغثيان والعفونة في أحداثٍ ربما غشوا مجلسي كغشيان ذباب هَجْرٍ بُعَيْد الصرام؛ فلا تسمع إلا سوء ظن معناه تزكية النفس، وفصْمُ أدق خيط يربط حياة مجتمعنا المسلم في مملكتنا الحبيبة؛ ففلان علماني، وذاك حليق لحية.. وهذاك تعلَّم في الغرب فهو ربيب أمريكا، وذيالك يحب الطرب، وابن ذاك أديب الله يرحم حاله!!.. وفلان مجرد باحث لا يحفظ العلم من زاد المستقنع.
قال أبو عبدالرحمن: لو هادنتـهم لتطبَّعتُ على معاداة جميع الخلق، ونشر القنوط، والجزم باليأس من رحمة الله ولطفه بخلقه، وهو سبحانه الذي يعلم السر والعلن؛ فقاتلتهم بكل عضلاتي -على الرغم من ضعف الكهولة- كما يقاتل المصلي المار يريد قطع صلاته، وفاركتهم مدارسةً ومحادثةً ومواصلة ولو عبر الهاتف.
قال أبو عبدالرحمن: وكنت أقول في السابق: لا حيلة لهم إلا أن يقولوا: كان أبو عبدالرحمن طروباً، وكان يحب الأدب، ويقرأ أغاني أبي الفرج، وديارات الشابشتي، وقطب السرور، والتايه اللي جاب بصري يقنه!.. فقلت اليوم ـ ولات حين تعبير ـ: بل الفن والأدب شرطٌ جمالي يكون إطاراً للعلم والفكر.. وبدون ذلك فلا تَأثُّرَ ولا تأثير؛ فإن عابوا بلممٍ مثل (النغم الذي أحببته) فذلك إرطاب زهدت فيه غير متحوِّب ولا متملِّق، وإنما تدرَّجتُ من اللمم إلى المباح إلى المندوب مع الاحتفاظ بعقيدة الواجب في كل مرحلة.. ولكن القوم ظلوا يكذبون.. إن سمعوا صالحاً جحدوه، وإن سمعوا ريبة طاروا بها ولم يُحقِّقوها، وإن لم يسمعوا كذبوا.. ونُسبتْ إليَّ فتاوى وأقوال ما أضمرها قلبي؛ فكيف ينطق بها لساني، أو يخط بها قلمي.
قال أبو عبدالرحمن: وهناك انفعالات أبديتها في حينها يوم كنت رئيساً للنادي الأدبي بالرياض، ويوم كنت طالباً بالمعهد العالي للقضاء، وتجديدها استرجاع تاريخ ضروري لمواقف تهزُّ الأريحية، بل يسرجانها إذا عُلم أنهما لخدمة الأدباء البائسين الضائعين بين بَهَر الجامعات وغياب الدائرة الثقافية الموحَّدة.. [قال أبو عبدالرحمن: كتب هذا قبل إضافة الثقافة لوزارة الإعلام] التي تُشعر بأن للأديب عالماً مرهفاً متميزاً، وأنه لا يحسن الصفق في الأسواق.. والأديب البائس ليس كضالة الإبل معها سقاؤها وحذاؤها، وإنما هو كضالة الغنم لك أو للذئب أو لأخيك.. ومما هزَّ أريحيتي الموقف الشهم لأبي زكي عبدالعزيز بن علي الشويعر الذي عزَّ عليه أن يكون النادي الأدبي بالرياض ـ بعد أن تحقق وجود مَقَرٍّ له ـ عارياً من التأثيث؛ فبادر بشيك قيمته مئتا ألف ريال (200.000) في وقت كانت فيه المئتان أعز من المليونين.. وقبل ذلك مواقف مشرفة كانت للشيخ محمد بن صالح آل سلطان رحمه الله، وحمد وإبراهيم آل سعيدان جزاهم الله خيراً، وإذا كنت أعلم أن البذل شحيح جداً آنذاك للنادي الأدبي بالرياض: فإنني أشكو عقوق الأدباء وحملة الأقلام ههنا؛ فإنهم لا يكادون يذكرون محسناً، أو يشكرون باذلاً.. وهؤلاء المتبرِّعون من ذوي الفضل إنما يريدون وجه الله إن شاء الله، ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف بفضلهم علناً؛ لأن الثناء الحسن عاجل بشرى المؤمن.. ومن ذلك الموقف الشهم لمعالي الشيخ عبدالله العلي النعيم أمين مدينة الرياض الذي عايش هموم المقر للنادي الأدبي منذ نشأته، ولم تسعفه الظروف في تطبيق أرض داخل البلد، وعلى احتمال وجود الأرض واحتمال بُعْدها قليلاً عن المدينة: فهو لا يثق بأن موارد النادي تفي بعمارته؛ لهذا بادر بتسليم المقر الاستراتيجي على شارع الستين؛ فوفَّر للنادي رزقاً يُصرف في سبيل الأدب، ووفَّر للأدباء مقراً وجواً ومستراحاً ومتنفساً ومتنزهاً، ولم نسمع كلمة واحدة من أديب - من شعر، أو نثر - من مجروش الكلام على الأقل إن أعجزهم حُرَّه.. لم نُرَفْرف مع كلمة واحدة مجنِّحة تشكر هذه المواقـف.. وكان النّعيم قبل ذلك حجز للنادي أرضاً، ثم خرج الأمر من يده بجعلها مسجداً، وتم التعويض بمقَرٍّ مكتمل العمران.
قال أبو عبدالرحمن: وبقيت كُلَيمةٌ عن جمع انفعالات، والانفعال مصدر، والمصدر لا يُجمع.. ومسألة ما يجمع وما لا يجمع من المصادر مسألةٌ شائكةٌ سأفرغ لتحقيقها إن شاء الله، وإنما أقول ههنا: المصدر اسم لكل إحداث وقع أو يقع من المادة مثل «ضرباً» اسم لكل إحداث وقع من أي فاعل أو سيقع؛ لهذا كان أوعب معاني الجمع؛ فلا يجمع.. وأباح جمعه من رأى دلالته على تعدد الأنواع كالاجتهادات؛ فهو أنواع اجتهاد وقع من زيد وعمرو وسعد.. إلخ، واجتهاد في الفقه، واجتهاد في اللغة.. إلخ .. والمحقَّق عندي أن من المصادر ما يُجمع إذا دلَّ على اسم الحدث الذي وقع لا الإحداث الذي لم يقع، ومن ذلك الانفعالات.. [انظر (نتائج الفكر في النحو) لأبي القاسم السهيلي ص317-362، ثم تابعه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى في (بدائع الفوائد) 1/323-329 ].. وأما تجليات الشعر العامي فكان خلف بن هذال رائدها، وقد رأيت قدرته عن كَثَبْ .. وإن عجب الناس من ذاكرته وهو يلقي شعره عن ظهر قلب من دون تلعثم فأعجب من ذلك صبي عمره تسع سنوات يحفظها عن ظهر قلب بصوت خلف نفسه في أمسية شعرية شعبية بالمعهد الزراعي ببريدة بعد إلقاء خلف نفسه بأويمات.. إن للشعر العامي فكراً وبلاغة وعاطفة لا تخبو ما بقيت الموهبة، وإنما تتجدد مع الأحداث، وخَلَفٌ بذكائه الفطري يجعل الوفاء رمزاً للتلاحم بين الراعي والرعية في مثل:
لا هانت بلاد أخو نورة ولا هِنَّا
الجوخة اللي لبسنا من بطاينها
وهذا الرمز التلاحمي يذكرني بقول الأمير خالد الفيصل حفظه الله في عمِّه الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله:
واللي يريد المجد لابد يبني
في قلوب وعقول المخاليق بنيان
وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمِّد بن عمر بن عبدالرحمن بن عبدالله العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -