د. محمد بن إبراهيم الملحم
في إطار الحديث عن التعلّم الاختياري فإن التعلّم مدى الحياة Lifelong Learning هو أساس هذا المسار، وهو في الحقيقة «طريقة حياة» فأولئك الذين يحرصون أن يتعلّموا كل يوم هم من يحملون معهم حكمة الحياة أو أدواتها أو الاثنين معاً وينجحون في التعامل معها، ولو ذهبت استكشف معالم بدائية في هذا المقام لبدأت أولاً من الإنسان الأول الذي كان يتعلَّم كل شيء تقريباً وهو باستمرار في حالة تعلّم حتى تراكمت لدى الأجيال التي تلته كل خبراته وخبرات مَن بعده لتصبح مسلّمات لا تحتاج كثير تعلّم، بل ينطلق كل جيل إلى مجالات جديدة، ولو نظرت إلى التعلّم مدى الحياة في الأمس القريب وقبل دخول التعليم في بلادنا مثلاً، فإن حكيم القرية أو عميدها وشيوخها (بمعنى كبار السن فيها) رجالاً ونساءً هم مصدر المعرفة الذي يلجأ إليه الجميع لمعرفة التصرف الأمثل في مختلف ظروف حياتهم اليومية، التداوي الزراعة الصناعة البناء الصيانة، كما أن مجالس الرجال وديوانياتهم ليست لعب ورق وتضييع وقت، بل هي سرد قصص وأشعار وتبادل وجهات نظر، وفي تلك القصص معالم حكمة وفهم للعالم والحياة وبناء تصورات جديدة عنها، ومن يحرصون على حضور هذه المجالس هم الأكثر فهماً وحكمةً، وهم متعلِّمون مدى الحياة، كما نتحدث اليوم عن المثقف أو الشخص الموسوعي أنه الأقرب إلى الصواب في أحكامه وتصوراته وخبراته.
هل التعلّم مدى الحياة بهذه الصورة لم يعد مهماً اليوم لانتشار المدارس والجامعات والتعليم الرسمي بكل صوره ومؤسساته الأخرى؟ الجواب لا طبعاً، فيجب أن يكون للطالب أشواقه وتطلعاته المعرفية الشخصية التي تدور حولها خصوصية شخصيته ويصقل بها مهاراته للحياة وحكمته حولها، وقد لا تكفي المعرفة التي تقدمها المؤسسات التعليمية لذلك سواء لأسباب المنهج أو لأسباب التطبيق، ومن هنا كان واجباً على الوالدين (والمؤسسات التعليمية) أن يزرعوا في نفوس الطلاب أهمية امتلاك أدوات التعلّم الذاتي وأهمها القراءة المفهومية أو الاستيعاب القرائي، ولا أقول مجرد «القراءة» فكل يستطيع تهجئة النصوص المكتوبة ونطقها، لكنما الفهم والاستيعاب هو أداة القارئ المتعلِّم ذاتياً، ومتى استوعب هذه المهارة كان قادراً على أن يبحر في كل المعارف وينهل منها لينشئ كنزه المعرفي الخاص الذي ينطلق به في حياته.
كما أن الرغبة في التعلّم هي البعد الأقوى في هذا السياق فلا بد أن يُنمّى الفضول المعرفي لدى الطفل منذ الصغر ولا تُجهَض أسئلته بأي شكل من الأشكال، مهما كانت تلك الأسئلة، حتى لو كان يسأل «ما هو شكل الله؟» أو «لماذا لا نراه؟»وعلى المربين وبخاصة الوالدان أن يستعدوا دوماً لأسئلة الطفل المحرجة، كما يجب أن يستمر تكوين هذا الشغف للتعلّم وتربيته ورعايته تماماً كما يربي الوالدان جسد طفلهم ويهتمون بسلامته وصحته، فهو وقوده في الحياة الذي سيحركه للتعلّم طوالها ويجعله على بصيرة ووعي يكفلان له المعيشة الطيبة، وهو بهذا الاعتبار أهم من الأكل والشراب، وأهم ما يغذّي شغف المعرفة في نفوس الناشئة هو أولاً إبعادهم عن الغرق في سفاسف الأمور وأهمها الألعاب الإلكترونية والتلفزيون وما شابهه من الملهيات البصرية مثل اليوتيوب وسناب شات وأخواتها، ولا أقول حرمانهم منها، بل الحذر من حالة «الإغراق» لأنها تنهك الشعور بالذات وقيمة الإنسان وتجعله مستعبداً لمتابعة وملاحقة ما يقدّم له، بينما هو نفسه لا يضيف إلى ذلك شيئاً فهو متلق على الدوام Passive ولكن إذا أخذ منها باعتدال وبقي له وقت كثير يملؤه بهوايات أو علاقات تفتح له طرق التعلّم مدى الحياة في صور وفرص متنوِّعة فذلك ما يثري شخصيته ويغذي شغفه على الدوام فينشأ محباً للتعلّم وباحثاً عن مصادره والتي يجب أيضاً أن يوفرها له المربون بأشكالها المختلفة فلا بد من توفر مكتبة منزلية مهما كانت صغيرة، ولا بد من مساعدته وتعريفه بأوعية المعلومات ومصادرها المتميزة في مواقع النت، وتشجيعه على البحث والتعلّم الذاتي من خلال الجوائز والحوافز، والقائمة تطول في الأساليب والمصادر، لكنما المحور الذي تدور حوله كلها هي وعي المربين بأهمية تنشئة ثم تغذية هذه الرغبة في التعلّم الذاتي والتزوّد بالمعرفة بشكل دائم ومستمر وأنها ليست شيئاً مؤقتاً يمارس لفترة ثم يتوقف، بل هي «طريقة حياة».