د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
تتداخلُ مراحل التكوين الفكري لكل جيلٍ وفق ما تُمليه ظروف المرحلة من تيسيرٍ وتعسير، وحين نشر محمد حسن عواد 1980 - 1902م قصيدته (صلاة نفس) فقد اعترض عليها مشايخُ من داخل بل ومن خارج الوطن كالشيخين محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب حسب رواية عزيز ضياء، وأثار كتابُ العواد (خواطر مصرحة) - في طبعته الأولى 1925م - غبارًا كثيفًا، وكذا صنعت بعض نصوص محمد الفهد العيسى 2013 - 1923م، وكتاب عبدالله السعد 1994-1910م (رموز على اللوحة)، وديوان غازي القصيبي 2010 - 1940م (معركة بلا راية - 1970م)، وهي نماذج من فترات متوالية مثَّلت إرهاصًا لفرض رقابةٍ تفاوتت صرامتُها ومرونتُها، ومثّل تراكمُها منهجًا إعلاميًا انغلق في فترات وانفتح في سواها.
** الأمثلةُ أوعيةٌ تستوعبُ قراءاتٍ تشير إلى أن فترةَ الثلاثينيات حتى آخر الخمسينيات الميلادية كانت من أخصب فترات الانفتاح الثقافي التي ارتسمت آثارُها في نصوصٍ وإصداراتٍ، والتُمسَ نتاجُها في أرشيف المكتبات المنزلية والعامة، سواء أكانت كتبًا تراثيةً أم حديثة؛ شعرًا أم روايةً أم فكرًا، وقرأ من تلاهم جلَّ ما اجتاز المقصَّ ولم يُرفعْ من الأرفف، وفيها العدمي واليقيني، والعقلي والنقلي، والحزبيُّ والرسمي، أما في مرحلة الستينيات وما تلاها حتى العقد الأول من هذه الألفية فقد ضاق الأفقُ قليلًا وغلب جانبٌ على آخر، وأُوقفَ بعضٌ وغُفل عن بعض، وساد ضجيج وصمتٌ، وامتدادٌ وارتداد، ووعى المتابعون - بعد تجارب قرنٍ أو يكاد - أن الأحاديةَ تُوصل للتطرف، وأن التعدديةِ وعيٌ يُقدّمُ الاختيار على القسر، والتنوعَ على التفرد.
** الشأنُ الثقافيُّ جسورٌ متتاليةٌ تصلُ النائيَ بالداني، وتستعيدُ إيقاع مراحل الرقابة الذاتية والغيرية، والتوجيه الخفيَّ والجليّ، وشعار: لا تكنْ ظلًا، ومقابله: انضوِ تحت المظلة، ومقولة: احذرْ ذلك الكاتب، يواجهها: لا تقرأْ إلا لهذا، وإذ يستقيمُ ذهنُ النشء حين يكبرون يمقتُون تحديدَ مسافات تفكيرهم، أو تأطيرها بمنهج (افعل- لا تفعل)؛ فلا منطق يُنزهُ الوصايا، ولا لغة تبرر الوصاية، ولا وعيَ يأذنُ بأسر العقل أو تعطيله.
** الحديث لا يخصنا وحدنا، وإذ مرَّ الزمن جرت المواءمةُ بين المفترض والممكن، وأيقن المنصِفون أن الإلغاءَ الثقافي ظلمٌ، وتساءلنا: هل يمكن ردُّ المظالم لمن قست عليهم أحكامُ الرقابة خلال فترةٍ قضت؟ وهل يستحق من اعترضتهم إشكالاتُ المنفى الإجباري كنصر أبو زيد والاختياري كجمال حمدان أن يُقرَؤوا مرةً أخرى فيُنصفوا؟ أوَ لم تجنِ القراءاتُ الوجاهيةُ والاتجاهيةُ لاختلافٍ في الرؤى كان حقُّها الفهم والتفاهم؟ ولماذا قبل من سبق ما عجز عن قبوله من لحق؟ وهل تتوارى كتبُ التصنيف التي حذّرت وأنذرت وفقَ إملاءاتٍ واجتزاءات.
** لا قلق لمن وممَّن تربتُه طاهرة وتربيتُه متزنة، ولعلَّ ما صُودر في زمنٍ يعود، ومن طواه التجاهل يُستعاد؛ فاستنساخ المواعظ القرائية لم يُنتج غير أرقامٍ مكررةٍ يُغني الواحد فيها عن ألف، ويقف الألفُ عند واحد.
** الثقافةُ انتماءٌ لا ارتماء.