م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1. المقالة هي قطعة نثرية.. تناقش فكرة أو قضية تهم فئة من الناس وتعالجها بمنهجية.. تحمل رأياً خاصاً أو انطباعاً ذاتياً ظاهراً.. وتقوم على بناء الحقائق واستخلاص النتائج.. تتسم بالسهولة وتقبل الاستطراد في عرض الأمثال والشواهد والأسماء والأمكنة والأزمنة.
2. إذا كان نجاح المقالة يقاس بسعة عدد المطلعين عليها والقارئين لها فإن كتابة مقالة صحفية ناجحة هذه الأيام تعد مهمة عسيرة.. فالكم الكبير من المقالات التي تُنشر يومياً جعلت قراء المقالة مُدَلَّلين لاتساع دائرة الاختيار أمامهم.. وهم من يحدد ما يروقهم.. ولن يقرأ المقالة الطويلة أو المقالة صعبة الصياغة إلا من كانت المقالة تهمه شخصياً.
3. إذاً فكاتب المقالة الحريص على نجاح مقالته يُفترض أن يأخذ هذا القارئ المدلل من يده برفق وتشويق.. ويقوده خلال المقالة بسلاسة اللغة وجمال الصياغة وحيوية الموضوع.. ثم ينهي مقالته بفكرة أو مقترح لحل.. ويكون ذلك في كلام موجز قصير.. فكرته تخترق الذهن كاختراق الرصاصة لا كاختراق (الدريل).. وكاتب المقالة الناجح هو الشخص الذي يجيد المراقبة والتحليل والتفسير والنقد.
4. المقالة المركزة في كبسولة هي المقالة المطلوبة في صحافة اليوم.. في هذا الزمن المتسارع الذي تحولت فيه فلسفة الحياة من (القوي يأكل الضعيف) إلى (السريع يأكل البطيء).. لذلك يمكن القول إن المقالات المطولة هي مقالات موجهة للباحثين.. وهي مفيدة لا شك من حيث إنها إضافة معرفية مهمة.. لكنها لطولها تفقد قطاعاً كبيراً من القراء وهذه خسارة فورية.
5. من المتفق عليه أن المقالة يجب أن تشمل العناصر الثلاثة التالية: التحليل ثم التشخيص ثم طرح الحلول.. وأكثر ما ينفر القارئ هو أن يكتب الكاتب وهو تحت تأثير عاطفة جياشة فتطيش منه الكلمات وتضيع المعاني.. أو أن تكون مقالته مهلهلة فتتحول إلى ألغازٍ وأحاجٍ لن يرهق القارئ نفسه في حلها.. والمقالة التي تشدّ القارئ بمتعة هي المكتوبة بعفوية والخالية من التكلّف والاستعراض الثقافي.
6. ومن المنفرات الأخرى التي يواجهها قارئ المقالة الكاتب المتحذلق الذي يريد استعراض ذكائه.. أو الفخر بأعماله وإنجازاته، أو الذم في منافسيه، أو التقرب لمن يرجو نفعهم.. أي أنه باختصار يريد تسخير مقالته لأغراض شخصية ليس للقارئ علاقة بها.. فالكاتب المأجور يخدع القارئ لمرّة واحدة.. والكاتب المتباهي يخدع القارئ حتى تنفذ ذخيرته ويكرّر نفسه.
7. في رأيي أن أفضل المقالات هي المقالة الرصاصة.. بمعنى أن تكون المقالة سريعة مركزة.. تخترق الوعي وتنفذ من خلاله دون عوائق من ركاكة أسلوب أو التفاف حول المعاني.. وليس المقصود أن تكون ذات فرقعة ويكون تأثيرها غائراً جارحاً وربما قاتلاً دون هدف.
8. كتب العرب القدماء ما يشبه المقالة.. وهي أنواع من فنون الكتابة والكلام تلتقي مع المقالة في نثريتها وإيجازها وخِفّتها ونقدها.. وما وصلنا من تلك الفنون: (الرسائل والخُطب والفصول والنصح).. وكَتَبَ فيها التوحيدي وابن المقفّع وعبدالحميد الكاتب وغيرهم.
9. كذلك ظهرتْ المقالة في تراث الأمم الأخرى منذ الإغريق والرومان وفي آثار الفرس وأهل الهند والصين.. أمّا المقالة بشروطها الكاملة وخصائصها الفنية فقد ظَهَرَتْ في الغرب مطلع القرن السادس عشر.. وكان رائدها الفرنسي (مونتني) والإنجليزي (باكون).. وتناولتْ مظاهر الحياة العامة وآراء شخصية.. واكتمل الشكل الفني للمقالة في القرن الثامن عشر وأصبحت فناً أدبياً قائماً بذاته.. وله كتّابه وجمهوره.. واتسعتْ مجالاتها وتنوّعتْ أشكالها ومضامينها.