د.محمد بن حمود الطريقي
لقد تحدثنا على مدار العقود الماضية ونحن ننافح عن حقوق ذوي الإعاقة ونطالب بها عن حقوق كثيرة لهم، وبفضل الله نرى معظمها قد تحقق على الأرض بفعل الرغبة الجادة من قيادتنا السعودية الإنسانية في حقوق هذه الفئة الغالية، الرغبة التي تتمثل في أجلى صورها في رؤية 2030 المباركة التي وضعتهم على رأس أهدافها.
لكنّ هناك حقًا أصيلاً لأبنائنا ذوي الإعاقة لم نلتفت إليه كثيرًا، ليس لعدم اهتمام، ولكن ربما لأنه حق ملتبس وغير واضح للعيان، حق أقرب ما يكون إلى حديث نفس لفئات كثيرة من المعاقين وأسرهم، لكنه بقي حديث نفس قد يستحيي صاحبه أن يتحدث عنه أو يطالب به، ألا وهو الحق في السعادة مع نوعه الآخر في المجتمع، الحق البيولوجي الذي لا أعرف لماذا صمتنا عنه طويلاً، أو لا أدري، ربما التبس الأمر علينا فلم ننتبه إلى أناتهم الدفينة التي طووا عليها أرواحهم فتألموا في صمت.
ولعل كلمة السر في نجاح العالم في تناول قضايا ذوي الإعاقة، في رأيي، تتمثل في النظرة إليهم بوصفهم إضافة وأفرادًا قابلين للاستثمار فيهم شأنهم شأن غيرهم، وليسوا أعباء أو أشخاصًا، فقط يحتاجون إلى رعاية، بل إن كثيرًا من النماذج التي تتحدث عنها الإحصاءات ذات العلاقة، بل ونراها بأعيننا، تكشف عن تفوقهم على أقرانهم من غير المعاقين، بفعل دافعيتهم العالية للنجاح، ورغبتهم الجادة في ردم الفجوة بينهم وبين أقرانهم غير المعاقين بمزيد من النجاح والتميز، ما جعل قلب المعادلة القديمة رأسًا على عقب، وعدل النظرة القاصرة إليهم من كونهم أشخاصًا يحتاجون إلى رعايتنا إلى كونهم أشخاصًا نحتاج إلى إسهاماتهم القيمة في المشهد التنموي في بلادنا، حتى نتمكن من تعظيم الاستفادة من دافعيتهم الخارقة التي تظهرهم كما لو كانوا أشخاصًا ذوي قدرات خاصة، وهم بالفعل كذلك، ففي مقابل أنهم أشخاص ذوو احتياجات خاصة، فهم أيضًا أشخاص ذوو قدرات خاصة، هذه هي النظرة الجديدة التي فرضها المعاقون على الجميع، وهو أمر يدعو إلى الانحناء لهم إكبارًا لهذه الروح الإنسانية الوثابة التي يتمتعون بها.
وانطلاقًا من هذه الرؤية تبين للجميع أن تأهيل ذوي الإعاقة نحو تنمية مستدامة أساس رئيس من أسس التنمية المستدامة، بوصفهم شركاء فاعلين ومؤثرين بقوة في المشهد التنموي للدول، عبر سلسلة من القوانين والإجراءات والبرامج التي مهدت السبيل أمام هذا النهج العالمي تجاه تأهيل ذوي الإعاقة نحو تنمية مستدامة بدأت في سبتمبر 2015، باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة التنمية المستدامة لعام 2030. ويشكل الشمول إحدى السمات المميِّزة لهذه الخطة، فهي لا تعتبر المجتمعات المحلية المهمشة مجرد جهات مستفيدة منها، بل أطرافاً رئيسية شاركت في وضع التصور العام لها وفي صياغتها. وتتعهد الخطة بعدم ترك أحد خلف الركب، وتتمسك بالرؤية المتمثلة في «عالم قوامه العدل والإنصاف والتسامح والانفتاح والإشراك الاجتماعي للجميع، وتلبَّى فيه احتياجات أشد الفئات ضعفاً».
وأسفرت عملية مكثفة من المشاورات العامة، شارك فيها المجتمع المدني، عن أهداف التنمية المستدامة البالغ عددها 17 هدفاً، وعن المقاصد المتصلة بها والبالغ عددها 169 مقصداً، منها سبعة مقاصد تذكر بوضوح «الأشخاص ذوي الإعاقة» أو «الإعاقة». وعدا ذلك، فالأهداف والمقاصد كافة بطبيعتها عالمية وشاملة للجميع، بمن فيهم الأشخاص ذوو الإعاقة.
لكن هذا كله يبقى ناقصًا، بل اسمحوا لي أن أقول باهتًا، إذا كانت المحصلة في الختام أن قطاعًا غير قليل من أبنائنا ذوي الإعاقة ليسوا سعداء، لأنهم محرومون من متعة حلال لا يعرفون السبيل إليها، أو يعرفونه لكن مخاوف كثيرة داخلهم تقف حجر عثرة في طريق سعادتهم، وإن الاهتمام الوطني على جميع المستويات لتأهيل ذوي الإعاقة يعد أحد أهم محاور حياتنا الاجتماعية، بل أهمها على الإطلاق، محور الزواج، إرساء لهذا الحق الإنساني الأصيل وضرورة تمتعهم به، لتمهيد السبيل أمام هذا الحق، على أكثر من محور؛ منها محور المعتقدات الاجتماعية والتمييز حول الإعاقة والزواج والجنس فنجد في المجتمع العديد من المعتقدات حول ذوي الإعاقة مرتبطة بالزواج وبقدرتهم الجنسية على ذلك، وهي معتقدات محبطة لهم ومسيئة وغير صحيحة. تتضمن بعض هذه الخرافات أن الشخص المعاق لا يحتاج إلى الزواج أو لا يمكنه ممارسة «الجنس الحقيقي» وأن تكون له أسرة. تتضمن بعض المفاهيم الأخرى المضللة أن الشخص المعاق لديه احتياجات أكثر أهمية من الزواج وممارسة حياته الجنسية الطبيعية، أو لا ينبغي له أن ينجب أطفالًا. وهذا مخالف لطبيعة الإنسان.
ومنها أيضًا محور الإعاقة والقدرة على الزواج، فغالبًا ما يكون الجنس سببًا للتوتر بين الأزواج، وفي بعض الحالات، غالبًا ما يكون لدى الأشخاص الذين ينخرطون في علاقة زواج وهم يعانون من إعاقة عواقب وخيمة على حياته تلازمه على مدى سنوات.
ويقول الخبراء إن العديد من الإعاقات يمكن أن تجعل الشخص غير قادر على الأداء الجنسي، سواء كان ذلك بسبب الإعاقة الفعلية أو بعض الأدوية. وقد يؤدي عدم القدرة على الأداء إلى جعل الأشخاص ذوي الإعاقة يشعرون بالضيق تجاه أنفسهم.
فيحدث تدني تقدير الذات الجنسي الذي يمكن أن يؤدي إلى الاكتئاب، والذي يمكن أن يتفاقم بسبب الاكتئاب الذي قد يعاني منه الشخص المعاق نتيجة إصابته أو حالته الطبية.
بل قد تنشأ مخاوف قد تكون لدى المعاق بشأن الجنس، وقد تكون لديه أسئلة ومخاوف تتعلق بصحته الجسدية أو العاطفية. على سبيل المثال، قد يشعر بالقلق بشأن إيجاد شريك، أو القلق بشأن ما إذا كان شريكه سيجده جذابًا، أو عدم الثقة في قدراته الجنسية أو أدائه، أو القلق بشأن كيفية تحرك جسمه أو عمله، أو القلق بشأن مشاعر شريكه تجاهه، أو القلق من الألم أثناء النشاط الجنسي، أو قلة الطاقة والرغبة في الجماع، أو قلق بشأن إمكانية إنجاب الأطفال، أو القلق بشأن ما سيفكر فيه الآخرون، ومن التمييز. وهذه كلها مخاوف وهواجس لا ينبغي أن نتركه في مواجهتها بمفرده، ولاسيما أنه قد لا يمتلك الشجاعة للإفصاح بكثير منها، ما يضعنا أمام واجب أن نمهد السبيل أمامه لتبديد هواجسه من خلال إجراءات تثقيفية، وأخرى توعوية، وأخرى علاجية إذا احتاج الأمر على النحو الذي يمكنه من هذا الحق الإنساني الأصيل.
ويقودنا هذا إلى المحور الثالث ويتمثل في تأهيل ذوي الإعاقة من أجل الزواج والعيش حياة جنسية طبيعية، من خلال التربية الجنسية، إذ يحتاج المعاق منذ طفولته إلى التربية الجنسية. وبالإضافة إلى نهج التربية الجنسية العامة يجب أن يشمل التثقيف الجنسي للطفل المعاق أيضًا حقيقة أن الأشخاص ذوي الإعاقة يمكن أن يعيشوا حياة رومانسية وجنسية مقبولة اجتماعياً، وطرح القضايا الجنسية التي قد تترافق مع إعاقتهم، والقواعد الاجتماعية مثل السلوكيات العامة والخاصة، والحدود الشخصية.
وهناك أيضًا التربية الأسرية، فوفقًا للجمعية الدولية للدراسة العلمية للإعاقة الذهنية (2008)، يحتاج الآباء ذوو الإعاقات الذهنية إلى تعليم مهارات الأبوة والأمومة وتكوين علاقات اجتماعية قوية.
يضاف إلى ما تقدم الوسائل المساعدة، فهناك جدل حول ما إذا كان سوق التأهيل الجنسي للأزواج ذوي الإعاقة آخذ في التوسع، وأن هذه المساعدات باهظة الثمن والعديد من الأشخاص ذوي الإعاقة عاطلون عن العمل أو لديهم دخل ثابت وليست لديهم القدرة المادية لاقتناء مثل هذه الأجهزة. لكن، حتى إذا كانت التكلفة تمثل مشكلة يمكن للأشخاص إلقاء نظرة على هذه المنتجات والحصول على أفكار حول كيفية تكييف العناصر في منازلهم لأداء وظائف زوجية مماثلة.
بقي أيضًا «الجنس بمساعدة طبية» ويعني بكيفية تقديم «مدربي العلاقات الحميمة» العلاج الجنسي للأشخاص ذوي الإعاقة من أجل التأهيل للزواج، ويتضمن هذا مساعدة الشخص في الوصول إلى جسده، قد تتضمن الجلسة «رسم خرائط للجسم» و»عملية المرور عبر مناطق مختلفة من الجسم، بأشكال مختلفة من اللمس، لمعرفة ما تحبه وما يتقبله وما لا يحبه».
إن خوض هذا المسكوت عنه كثيرًا فيما يخص ذوي الإعاقة في مجتمعاتنا من شأنه غبن هذه الفئة المشاركة بقوة في المشهد التنموي في بلادنا، من حق أصيل لها، بل حرماننا من أسرة مختلفة ورائعة يمكنها أن تمثل إضافة قيمة إلى مجتمعنا، يسهم أفرادها السعداء في الدفع بعجلة التنمية المستدامة في بلادنا إلى الأمام.
** **
- رئيس مجلس العالم الإسلامي للإعاقة والتأهيل ورئيس تحرير مجلة عالم الإعاقة